تعددت الروايات الواردة عن محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تؤكد على أن دولة العدل الإلهي لا تقوم حتى يُمتحن ويُغربل المؤمنون. إن الغاية من هذه الاختبارات هي تطهير وتقوية إيمان المؤمنين وثقتهم بربهم وفي نفس الوقت تنقية مجتمع المؤمنين من بقايا ذرية قابيل وإبليس. عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
«ويل لطغاة العرب من شر قد اقترب. قلت: جعلت فداك، كم مع القائم من العرب؟ قال: شئ يسير. فقلت: والله إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير. فقال: لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا، ويخرج مع الغربال خلق كثير».
لقد أوضح الإمام الباقر (منه السلام) أن الغربلة والاختبار تكون لشيعة الإمام (منه السلام) خاصة، حيث قال:
«لتمحصن يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا، ويصبح وقد خرج منها». لقد تحدث الإمام الصادق (منه السلام) عن شدة الاختبارات والامتحانات والمحن التي يرتد على أثرها البعض ثم يرجع في النهاية بعد عناء كبير، بينما يخرج البعض الآخر من الاختبارات وهو محطم كلياً. عن أبي عبد الله (منه السلام) قال: «والله لتكسّرنّ تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان، والله لتكسّرنّ تكسّر الفخار وإنّ الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، ووالله لتغربلنّ، ووالله لتميزنّ، ووالله لتمحصنّ، حتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل، وصعّر كفّه».
أوضح الإمام الباقر (منه السلام) أن الهدف من الاختبار هو تنقية مجتمع المؤمنين من كل من يدعي الإيمان وهو غير مؤمن. وقال (منه السلام) إنهم كانوا يختبرون المؤمنين فيتعمدون إلقاء كلام معين يشمئز منه المؤمنون، وذلك لمعرفة من سيتمسك بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما كان. عن أبي جعفر (منه السلام) قال:
«إن حديثنا هذا تشمئز منه قلوب الرجال، فمن أقر به فزيدوه ومن أنكره فذروه، إنه لابد من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة … حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا».
وتتسبب الامتحانات والمحن والفتن والغربلة في أن يسب أتباع الإمام (منه السلام) بعضهم البعض ويتبرأون من بعضهم البعض. عن عميرة بنت نفيل، قالت: «سمعت الحسين بن علي (عليهما السلام) يقول: «لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، ويشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضا». فقلت له: «ما في ذلك الزمان من خير؟». فقال الحسين (عليه السلام): «الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله».
غير ذلك لن تكون هناك دولة عدل إلهي، لأنه يجب إستئصال المنافقين من مجتمع المؤمنين، وهم الأشخاص الغير جديرين بهذا الأمر الإلهي العظيم. لهذا السبب قال الإمام الباقر (منه السلام): «هيهات هيهات لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تمحصوا، هيهات ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تغربلوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلا بعد إياس، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى يشقى من شقي، ويسعد من سعد». وقد أخبرنا النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المتمسك بدينه عند الغربلة «كالقابض على الجمر».
لمعرفة نوعية الاختبارات والمحن المتوقع حدوثها في زمن القائم (منه السلام)، دعونا نلقي نظرة على نوعية الاختبارات التي خضع لها الأنبياء والرسل السابقون (عليهم السلام) وأتباعهم. نبدأ بآدم (عليه السلام) وكان اختباره ألا يأكل من الشجرة، سُمح للشيطان بمحاولة إسقاط آدم (عليه السلام) فأخبره أنه إذا أكل من الشجرة فسيحظى بمملكة أبدية وسيكون مثل الله، كان على آدم (عليه السلام) أن يقرر من الذي يقول الحقيقة، الله أم الشيطان؟ كان عليه أن يقرر بمن يثق ولمن يستمع، وكونه استمع إلى الشيطان يعني أنه اختار عبادة الشيطان بدلاً من عبادة الله. قال الإمام الصادق (منه السلام) في قوله تعالى:
﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾: «أما والله، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون».
لذلك كان الشيطان أول عالم غير عامل، وقد أسقط آدم (عليه السلام) بغوايته له ليعصي أمر الله، فحرم له الحلال وأحل له الحرام. وهكذا نعرف أنه في زمن القائم ينبغي علينا أن نتوقع أن يحاول الشيطان إغواء الناس، من خلال القساوسة والأساقفة والأحبار والشيوخ غير العاملين الذين سيسعون إلى حملنا على معارضة كلام الإمام (منه السلام) المباشر.
في زمن نوح (عليه السلام) - وقد كان نوح (عليه السلام) مُخلِّصاً وقائماً بالحق من آل آدم (عليه السلام) - امتُحن المؤمنون بشدة. قال الإمام الصادق (منه السلام):
«لما أظهر الله تبارك وتعالى نبوة نوح (عليه السلام) وأيقن الشيعة بالفرج اشتدت البلوى وعظمت الفرية إلى أن آل الأمر إلى شدة شديدة نالت الشيعة، والوثوب إلى نوح بالضرب المبرح، حتى مكث (عليه السلام) في بعض الأوقات مغشيا عليه ثلاثة أيام يجري الدم من أذنه ثم أفاق وذلك بعد سنة ثلاثمائة من مبعثه، وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهارا فيهربون ويدعوهم سرا فلا يجيبون، ويدعوهم علانية فيولون، فهم بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم، وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء فهبط إليه وفد من السماء السابعة وهو ثلاثة أملاك فسلموا عليه، ثم قالوا له: يا نبي الله لنا حاجة، قال: وما هي؟ قالوا: تؤخر الدعاء على قومك فإنها أول سطوة لله عز وجل في الأرض، قال: قد أخرت الدعاء عليهم ثلاث مائة سنة أخرى، وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع ويفعلون ما كانوا يفعلون حتى إذا انقضت ثلاثمائة سنة أخرى ويئس من إيمانهم جلس في وقت ضحى النهار للدعاء فهبط عليه وفد من السماء السادسة فسلموا عليه فقالوا: خرجنا بكرة وجئناك ضحوة، ثم سألوه مثل ما سأله وفد السماء السابعة فأجابهم إلى مثل ما أجاب أولئك إليه، وعاد (عليه السلام) إلى قوم يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا حتى انقضت ثلاثمائة سنة تتمة تسعمائة سنة فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت وسألوا الدعاء بالفرج، فأجابهم إلى ذلك وصلى ودعا، فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال له: إن الله تبارك وتعالى قد أجاب دعوتك فقل للشيعة: يأكلوا التمر ويغرسوا النوى ويراعوه حتى يثمر، فإذا أثمر فرجت عنهم، فحمد الله وأثنى عليه وعرفهم ذلك فاستبشروا فأخبرهم نوح بما أوحى الله تعالى إليه ففعلوا ذلك وراعوه حتى أثمر، ثم صاروا بالثمر إلى نوح (عليه السلام) وسألوه أن ينجز لهم الوعد، فسأل الله عز وجل عن ذلك فأوحى إليه: قل لهم: كلوا هذا التمر واغرسوا النوى فإذا أثمرت فرجت عنكم، فلما ظنوا أن الخلف قد وقع عليهم ارتد منهم الثلث وثبت الثلثان فأكلوا التمر وغرسوا النوى حتى إذا أثمر أتوا به نوحا (عليه السلام) فأخبروه وسألوه أن ينجز لهم الوعد فسأل الله عز وجل عن ذلك فأوحى إليه: قل لهم: كلوا هذا التمر واغرسوا النوى فارتد الثلث الآخر وبقي الثلث فأكلوا التمر، وغرسوا النوى، فلما أثمر أتوا به نوحا (عليه السلام) ثم قالوا له: لم يبق منا إلا القليل ونحن نتخوف على أنفسنا بتأخر الفرج إن نهلك، فصلى نوح (عليه السلام) ثم قال: يا رب لم يبق من أصحابي إلا هذه العصابة وإني أخاف عليهم الهلاك إن تأخر الفرج عنهم، فأوحى الله عز وجل إليه: قد أجبت دعوتك…».
قال الإمام الصادق (منه السلام):
«وكذلك القائم (عليه السلام) فإنه تمتد أيام غيبته ليصرح الحق عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كل من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسوا بالاستخلاف والتمكين والأمر المنتشر في عهد القائم (عليه السلام)».
إذن نرى هنا نوع آخر من الاختبارات المتوقعة في زمن القائم (منه السلام)، وهو طول المدة التي تكون قبل القيام، والتوقيت والصبر. وبالفعل، كان شيعة الإمام أحمد الحسن (منه السلام) يتوقعون حدوث القيام في عام ١٩٩٩ عندما ظهر الإمام (منه السلام) لأول مرة وصرح بأنه رسول من الإمام المهدي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن الآن في عام ٢٠٢٢، أي أن الشيعة ظلوا ينتظرون القيام لمدة ٢٣ عاماً. ومعظم المؤمنين بالإمام أحمد الحسن (منه السلام) انتظروا ١٥ عاماً حتى يشهدوا ظهوره (منه السلام) على العلن بعدما دخل في غيبة في عام ٢٠٠٧ (رغم أنه ظهر لخاصته في عام ٢٠١٥). وما نتعلمه من هذا الاختبار العظيم الذي مر به المؤمنون مع نوح (عليه السلام) هو أنه حتى لو تأخر وعد الله مراراً وتكراراً، فلا يجب أن نفترض أن الوعد قد أُخلف أو أن النبوءة كانت باطلة، وهو ليس عذراً للارتداد، فعلينا أن نتمسك بإيماننا مهما حدث. الوقت هو اختبار عظيم للإيمان، وطول الانتظار مع القائم (منه السلام) هو أمر متوقع.
في قصة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) لا نجد مثال على نوعية الاختبارات التي يمر بها المؤمن أفضل من إمتحان الله له بالتضحية بابنه. يروي القرآن الكريم أن إبراهيم (عليه السلام) شاهد رؤيا:
﴿يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾.
إذن أولاً، امتُحن إبراهيم (عليه السلام) بتصديق الرؤيا، وعندما صدق الرؤيا وعمل بها، أثنى الله عليه قائلاً:
﴿قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ﴾.
وقد فعل الإمام أحمد الحسن (منه السلام) نفس الشيء، حيث صدق الرؤيا التي رآها، والتي رأى فيها الإمام المهدي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بأن يلتقي به في مكان ما، فصدق الإمام (منه السلام) الرؤيا وذهب والتقى بالإمام المهدي (صلى الله عليه وآله سلم) في ذلك المكان وكان واثقاً من أنه هو، لأن الشيطان لا يتمثل في صورة الأئمة (منهم السلام). كذلك في زمن القائم، يُمتحن المؤمنون بالرؤيا وبتصديقهم للرؤيا والعمل بها لنصرة القائم.
أما الجزء الثاني من اختبار إبراهيم، فكان أنه أُمر بذبح ابنه. يتعارض هذا الأمر في حد ذاته مع أحد وصايا شريعة نوح (عليه السلام) وهي تحريم القتل:
«سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ».
وبالتالي لم يكن على إبراهيم (عليه السلام) أن يخالف وصايا الله التي كان يعرفها فحسب، بل كان عليه أن يضحي بابنه. ما نتعلمه من هذا هو أن الله يختبرنا أحياناً بأمور قد تتعارض مع البوصلة الأخلاقية الموجودة لدينا أو تتعارض مع الدين الذي تعلمناه من قبل، وقد يختبرنا بالتضحية بروابطنا الأسرية لأنه من غير المرجح أن تقبل أسرة كل فرد هذا الحق وتسير معه على هذا الطريق، وقد ترك إبراهيم (عليه السلام) هاجر وإسماعيل (عليهما السلام) أيضاً في الصحراء وهاجر إلى الله. ومن المتوقع في زمن القائم (منه السلام) أنه سيتعين على المؤمنين اتخاذ قرارات مماثلة والتخلي عن روابطهم الأسرية والتضحية بها في سبيل الله والحق وإقامة دولة العدل الإلهي.
كان نبي الله موسى (عليه السلام) امتحان عظيم لبني إسرائيل. فعندما بُعث موسى (عليه السلام) إليهم لم يكن يجيد العبرية، بل كان يتحدث اللغة المصرية بما أنه نشأ في قصر فرعون، كما أنه لم يكن يعهد بعادات وتقاليد بني إسرائيل. آخر ما توقعه بني إسرائيل هو أن يأتيهم المخلص من قصر فرعون. كان موسى (عليه السلام) في نظرهم مصري، ابن فرعون. ومن هنا يمتحن الله المؤمنين في زمن القائم ويغربلهم بارسال مخلصاً لهم نشأ في مصر ثم هاجر إلى الغرب إلى أمريكا وبدأ دعوته من الغرب. سُئل الإمام موسى الكاظم (منه السلام) عن المهدي، أين يكون قيامه وأين يقيم، فكان جوابه (منه السلام):
«إن مثل من سألت عنه مثل عمود سقط من السماء رأسه من المغرب وأصله من المشرق، فمن أين ترى العمود يقوم إذا أقيم؟ قلت: من قبل رأسه. قال: فحسبك من المغرب يقوم وأصله من المشرق وهناك يستوي قيامه ويتم أمره، وكذلك كان المهدي (عليه السلام) ونشأته بالمشرق ثم هاجر إلى المغرب، فقام من جهته وبالمشرق يتم أمره».
هناك دلالات كثيرة على أن القائم يأتي من الغرب، وتذكر الروايات أن معظم أصحابه يكونون من غير العرب: «مع القائم (عليه السلام) من العرب شئ يسير». وقد أُمر المؤمنون بالذهاب إليه ولو حبواً على الثلج، ومعروف أن الثلج موجود في أوروبا وأمريكا وليس في الشرق الأوسط:
«فأتوه ولو حبوا على الثلج»
وأمه غير عربية وهي من الغرب:
«وأمه رومية».
لذلك حتى إذا جاء أمر ما من اتجاه غير متوقع، ومخالفاً لمعتقداتنا أو توقعاتنا، فلا يمكننا أن ننكره أو نرتد متخذين من هذا ذريعة. ثم بعد الإقرار بالحق، ربما يواجه المؤمنون مع القائم ما واجهه بني إسرائيل مع موسى (عليه السلام) حيث امتحنهم الله بالهجرة مع موسى (عليه السلام) وترك بلاد فرعون، وكذلك يُختبر المؤمنون بالهجرة إلى القائم.
حتى في زمن المخلصين السابقين مثل المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) كان يجب أن يُغربل المؤمنون حتى لا يبقى سوى المؤمنين الحق. قبل اعتقال عيسى (عليه السلام) قال عيسى لسمعان بطرس (عليه السلام):
«سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ!» فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».
نجد في قصة عيسى (عليه السلام) مثال على الغربلة، حيث واجه المؤمنون، الحواريين، امتحاناً صعباً للغاية. كانوا يؤمنون أن عيسى (عليه السلام) هو المخلص، ويعلمون أن النصوص اليهودية قد صرحت بأن المخلص اليهودي سيحكم من القدس ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، كانوا يعلمون كذلك أن المُدعي كذباً بأنه المخلص لن يتمكن من إنجاز المهمة أو تحقيق الوعد الذي وُعد به المخلص الحقيقي من الله. وكل من يدعي كذباً أنه المخلص، يبتر الله عمره. ولكنهم رأوا أن عيسى (عليه السلام) الذي احتج بأنه المسيح، كان مقبوضاً عليه ويساق إلى الرومان ويبدو وكأنه لا حول له ولا قوة وغير قادر على الدفاع عن نفسه، ولا يأتي الله أو ملائكته لإنقاذه، ويُصلب ويُقتل رغم أنه لم تمر ثلاث سنوات على بدء دعوته. اشتبه على الحواريين الأمر، وكانوا متحيرين يسألون أنفسهم: «ماذا يعني كل ذلك؟ كيف يمكن لهذا أن يحدث؟هل هو فعلاً المخلص أم لا؟ هل كان هذا عقاباً لأنه ادعى شيئاً كذباً؟». ملأ الشك قلوبهم وعقولهم. ولكن في نهاية المطاف تمسك التلاميذ بإيمانهم رغم أنهم تخلوا عن عيسى (عليه السلام) وأنكروه حينما تم القبض عليه واستجوابه. اجتازوا الامتحان ومضوا ينشرون رسالة عيسى (عليه السلام) في كل أنحاء العالم. ولكن امتحانهم كان بالفعل امتحاناً صعباً، حيث أنهم امتُحنوا في الإيمان بعيسى (عليه السلام) رغم أنه، حسب اعتقادهم، لم يستوفي معايير المخلص. سيُمتحن المؤمنون مع القائم (منه السلام) كذلك في ثباتهم ووقوفهم بجانبه ودفاعهم عنه ضد الأعداء دون أن ينكروه، حتى وهم معرضون للسجن أو الموت.
انتقلت المسيرة من آدم (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من مواجهة العلماء غير العاملين مع آدم (عليه السلام) إلى مواجهة اختبار الزمن مع نوح (عليه السلام) إلى التضحية بالعلاقات الأسرية مع إبراهيم (عليه السلام) ثم إلى الهجرة مع موسى (عليه السلام) ثم إلى الثبات في مواجهة الأعداء مع عيسى (عليه السلام) وتحمل الظلم، وأخيراً نأتي إلى الامتحان الذي كان مع رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي تمثل في القيام وتأسيس دولة العدل الإلهي. كذلك مع القائم (منه السلام)، يجب أن يتحقق وعد الله معه ويجب أن يتم تأسيس دولة العدل الإلهي، وسيُمتحن المؤمنون بتأسيس دولتهم والدفاع عنها. ليس هذا فحسب، بل سيُمتحن المؤمنون كذلك بالثبات مع القائم وعدم الحكم على أفعاله مهما سمعوا أو رأوا منه.
بعد أن شيد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أسس الأمة الإسلامية، أخضعها للغربلة من خلال تنصيب خليفة له. كان الإمام علي (منه السلام) مثالاً حياً على الغربلة التي وقعت. فبعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبق من الأمة التي كانت تضم عشرات الآلاف سوى أربعة مؤمنين حقيقيين. لكن ما الذي يجعل الأمة المسلمة تنبذ خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ كان محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) الانعكاس الأمثل والخليفة الأكمل لله، ولذلك كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته علي بن أبي طالب (منه السلام) الحاملين للحقيقة الكاملة ولدين الله الحقيقي. ودين الله الحقيقي ثقيل لا يتحمله إلا القليل، ولهذا السبب كان تقبل خلفاء النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً صعباً جداً على الناس لثقل الحقيقة التي جاءوا بها. قال علي بن الحسين (منهما السلام):
«والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله بينهما فما ظنكم بسائر الخلق إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت، فلذلك نسبته إلى العلماء».
وقال الإمام علي (منه السلام) ذات يوم لأبا ذر:
«يا با ذر إن سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت: رحم الله قاتل سلمان».
حتى عيسى (عليه السلام) تحدث عن مرارة وثقل الحق حينما قال:
«مَنْ يطلب فلا يستنكف عن الطلب إلى أن يجد. وحين يجد سوف يضطرب».
وقال النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
«الحق ثقيل مر والباطل خفيف حلو».
وقد اضطربت أمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرات عديدة من الحقيقة التي جاء بها، ولكن بسبب سلطة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفوذه بقي الناس تحت عباءة الإسلام حتى وفاته. وبمجرد أن توفى ارتد الكثير من الناس وبدأت حروب الردة.
كان سبب ارتداد الناس بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنهم سمعوا ورأوا منه خلال حياته الكثير من الأمور التي أثارت حفيظتهم وأزعجتهم. كانوا يعلنون إسلامهم في الظاهر، لكن صدورهم وبواطنهم كانت تخفي الكفر. إن الاصطدام بمسألة ثقيلة ومزعجة هو شكل عظيم من أشكال الغربلة والامتحان. فاضطرابنا من مسألة ما يكون بسبب تعارضها مع مفاهيم وأفكار مسبقة لدينا، حيث يكون لدى كل إنسان قناعاته الخاصة حول الصواب والخطأ، ليكتشف بعد ذلك أو يخبره أحد أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول أن هذا خطأ وذلك صواب. ولا يستطيع الشخص ذو الإيمان المتزعزع والغير راسخ تحمل معرفة أن معتقداته السابقة باطلة ويضطرب لذلك، ويحاول عقله أن يحل التناقض الموجود في ذهنه وقلبه عن طريق رفض الرسول ورسالته وتكذيبه واعتباره من جند الشيطان. قال الإمام علي (منه السلام):
«وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق».
فالناس يختلط عليها الحق الذي يشبه الباطل والباطل الذي يشبه الحق.
فمثلاً، في قصة العبد الصالح، اشتبه على موسى (عليه السلام) أمر العبد الصالح لأن أفعاله كانت شبيهة بالباطل رغم أنها حق. خرق العبد الصالح سفينة لمساكين يعملون في البحر بعد أن ركب فيها، وقتل غلاماً لم يرتكب أي خطأ، وأقام جداراً في قرية لقوم ظالمين. هذه الأفعال تبدو خاطئة أو شريرة في الظاهر، ولكن فقط بعد فهم العلة من ورائها تحولت الأفعال من باطل إلى حق في نظر موسى (عليه السلام). كشف العبد الصالح أنه خرق السفينة لكي لا يستولي عليها ملك جائر كان يأخذ كل سفينة في البحر عنوة. بهذه المعلومة اتضح لموسى (عليه السلام) أن العبد الصالح كان يحاول مساعدة هؤلاء المساكين وليس إيذائهم. ثم كشف العبد الصالح أنه قتل الغلام لأنه كان جاحداً بالله وكان سوف يؤذي أبويه، وبهذه المعلومة اتضح أن فعل العبد الصالح الذي كان يبدو وحشياً في الظاهر كان في الحقيقة رحمة. أما الجدار الذي أقامه العبد الصالح فكان رحمة باليتيمين حيث كان لهما كنز تحته، وكان إصلاحه حماية للكنز حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما بأنفسهما. وهكذا هو الحال مع المؤمنين الذين يقتربون من الحق، فإنهم في البداية يتبعون الرسول، وإذا شاهدوا منه فعلاً قد يبدو في الظاهر شريراً أو خاطئاً، يضطربون ويرتدون دون فهم السبب. ولذلك، نصح الإمام أحمد الحسن (منه السلام) المؤمنين دائماً بأنهم إذا أرادوا الاستمرار على هذا الطريق، فعليهم: «الصبر ثم الصبر ثم الصبر ثم التسليم». بمعنى أن يصبر المؤمن على ما يرى ويسمع حتى يفهم السبب وعندما يفهم السبب يسلم ويقبل. وفيما يلي بعض الأمثلة على أمور وقعت مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله سلم) اضطرب لها أصحابه وكانت سبباً في ارتدادهم.
كانت هناك اتهامات كثيرة في حياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله سلم) بأنه كاذب ومخادع ودجال، وحاشاه. اتهموه بأنه لم يتلقَ أي وحي من الله، بل قالوا أنه كان يسرق آيات القرآن الكريم من الآخرين أو يطلب من الناس أن يصيغوها نيابةً عنه. هذه الاتهامات ما كانت لتعني أي شيء لو كانت صادرة من أعداء الإسلام وأعداء النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن الطبيعي أن يلقي الكافر والعدو خصمه بالاتهامات ويكذبه، لكن هذه الاتهامات جاءت من المؤمنين، جاءت من كُتّاب الوحي أنفسهم الذين كانوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). لا يعرف الكثير من المسلمين أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لديه ٤٢ كاتباً يُدوِّنون الوحي الذي كان يأتيه من عند الله، وهو القرآن الكريم. ولكن العديد من هؤلاء الكتبة ارتدوا، ومنهم عبد الله بن أبي السرح الذي هاجر إلى المدينة وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المقربين والموثوقين، وكان النبي قد كلفه بكتابة الوحي. هناك عدة قصص تروي ما حدث مع عبد الله، ومنها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه ذات يوم ليكتب له شيئاً، فأملاه الآية ١٤ من سورة المؤمنون:
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾
فتعجب عبد الله من دقة الخالق والتفصيل في الآية، فقال:
«فتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»،
فقال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«هكذا أُنزل»،
فشك عبد اللَّه حينئذ في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:
«لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَئِنْ كَانَ كَذَّابًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَال».
قرر عبد الله أن يحرف بعض الكلمات التي كان يمليها عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمره بكتابة «عليماً حكيماً» كتب «غفوراً رحيماً»، وإذا قال له: اكتب «غفوراً رحيماً» كتب «عليماً حكيماً»، فادعى أن النبي لم يلاحظ ذلك، وكفر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وارتد عن الإسلام، وفر في منتصف الليل إلى مكة وأعلن رجوعه إلى دينه القديم.
غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غضباً شديداً وأهدر دمه، وعندما فتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيش المسلمين مكة، كان هناك أربعة رجال وامرأتين أمر رسول الله بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.كان عبد الله أحدهم. فطلب عثمان بن عفان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفو عنه واستشفع له عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فغفر له وعاد عبد الله إلى الإسلام. وقعت المزيد من المواقف المثيرة للجدل مع كتبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وارتد كاتب آخر ووجه نفس الاتهامات لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ:
«كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِى مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقُوهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِى الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ».
اضطرب المسلمون لأنهم ظنوا أن الله أو جبرائيل (عليه السلام) يحدث النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يحدثه البشر، ويُملي عليه القرآن كلمة بكلمة وحرف بحرف. وعندما رأوا ما رأوا، افترضوا أنه كاذب وبدا لهم وكأنه يختلق القرآن أو أنه ينتحل من كتبته آيات يراها هو مناسبة ويضيفها للقرآن. ولكن الحقيقة كما بينا سابقاً في هذا الكتاب هي أن القرآن هو كلام النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد نطق هو بالكلمات وأمر بكتابتها بالطريقة التي رآها هو مناسبة للتعبير عن الحقيقة العظمى التي أوحى الله بها إليه. على سبيل المثال «العليم»، «الحكيم»، «الغفور»، كلها كلمات تصف قدرة الله، وبالتالي لا يهم أي كلمة أو جملة يختار طالما أنها توصل الفكرة لمن يؤمنون بهذه الرسالة، ولو كان الكتبة قد أدركوا حينها أن الوحي والتواصل الإلهي يكون بهذا الشكل لكانوا ربما أكثر تقبلاً، ولو كانوا قد فهموا أن الوحي لطالما كان هكذا، ولو لم يفهموا الأمور بهذا الشكل الحرفي أو لو كانوا قد سألوا النبي نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلاً من الفرار والارتداد، لكانوا قد فهموا ولما فعلوا ما فعلوا. على سبيل المثال ورد في بعض المصادر أن قصة ذي القرنين (عليه السلام) في سورة الكهف تحتوي على أبيات شعر لأحد كتبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يرجع إلى ما قبل الإسلام، استحسن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الأبيات وأمر كتبته باعتمادها في سورة الكهف. وإن صح هذا الأمر، فإنه لا يدحض نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه من الممكن ببساطة أن يكون الله قد أخبر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن القصة صحيحة وقد كان للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حرية نقل وترجمة هذه الرسالة إلى الناس بالشكل الذي يراه هو مناسباً، إما عن طريق إعادة كتابة القصة بأكملها بكلماته أو تبنيها جزئياً من أحد كتبته.
تخيل أن تكون أحد المسلمين الذين عاشوا في ذلك الزمان وتسمع أن كتبة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ارتدوا وهربوا إلى مكة. تخيل أن تسمع قولهم بأن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس نبياً حقيقياً ولم يعلم سوى ما كتبوه، وأنهم حرفوا في كتابة الوحي الإلهي دون أن يلاحظ. تخيل أن تسمع قولهم بأنه كان ينتحل علمهم وكلماتهم. كان هذا حتماً سيكون امتحاناً عظيماً للإيمان والولاء وغربال عظيم في ذلك الوقت. الراسخون في الإيمان لا يشكون، أما البقية فيتزعزعون كما تتزعزع أوراق الشجر في وسط رياح عاصفة. إذا كان عدد من ثقات وخُلَّص أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الاثنين والأربعين، وهم كتبته الذين شهدوا وكتبوا الوحي بأنفسهم، قد ارتدوا وذهبوا حتى إلى الادعاء بأنه كاذب ولم يتلق يوماً وحياً من الله، إذن لا نتعجب عندما يرتد بعض من أقرب أصحاب الإمام أحمد الحسن (منه السلام) اليوم، ربما بعض من الاثنين والأربعين رجلاً، وينكرون تواصل القائم (منه السلام) مع الإمام المهدي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلقيه أي وحي منه. عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل - والقذة بالقذة لا تخطؤون طريقهم - ولا يخطى شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع - حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه».
ومن الأمور التي اضطرب لها النصارى والعرب في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي علاقته بالنساء. فلا تزال مسألة زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلاقاته بالنساء موضع جدل في هذا الزمان، ويستخدمها كثير من الناس للطعن في النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الإسلام، حيث يشيرون إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتبع أحكام الله في القرآن التي تحلل الزواج بأربعة نساء فقط وتزوج بأكثر من ذلك بكثير. ورُوي أنه تزوج في حياته بتسع زوجات، وتزوج بعدة نساء أخريات زواجاً مؤقتاً (زواج المتعة) وغيرهن من الإماء أو النساء اللواتي تزوجهن وطلقهن. ورُوي أيضاً أنه طلب يد بعض النساء للزواج فرفضن. يقارن المسيحيون هذه الأمور بعيسى (عليه السلام) ويقولون أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل غير تقي، وحاشاه. يعرفون عن تاريخ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر مما يعرف المسلمون ويكتبون عنه في كتبهم ومسرحياتهم وقصائدهم ويحاولون تشويه صورته وصورة الإسلام. في إحدى هذه القصائد، وهي «جحيم دانتي» للكاتب الإيطالي الشهير دانتي أليغييري، يصور دانتي النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدائرة الثامنة من الجحيم.
الدائرة الأولى من الجحيم تدعى «ليمبو» وهي لغير المعمدين والصالحين من غير المسيحيين، الدائرة الثانية هي لأصحاب الشهوة والزناة وهنا وضع دانتي كليوباترا وهيلين طروادة، الدائرة الثالثة من الجحيم هي للنَّهم الذين لا يستطيعون التحكم في بطونهم، الدائرة الرابعة من الجحيم هي للبخلاء والذين يلهثون وراء المال والثروات المادية، الدائرة الخامسة من الجحيم هي لأولئك الذين لا يسيطرون على غضبهم، الدائرة السادسة من الجحيم هي للمهرطقين الذين يزدرون الدين ويؤمنون بالهرطقات، الدائرة السابعة هي للقتلة والسفاحين المتوحشين، الدائرة الثامنة هي للمخادعين والكاذبين وفيها وضع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (منه السلام)، الحلقة الوحيدة الأدنى هي الحلقة التاسعة التي يضع فيها دانتي الشيطان وهو يلتهم يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح (عليه السلام).
وهناك إقرار وإشارة واضحة في كتب المسلمين إلى سلطة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقوقه وصلاحياته. كان للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق كثيرة ليس فيما يخص النساء فحسب بل في جميع جوانب الحياة أيضاً. ورد في تفسير القرطبي:
«وأما ما أحُل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر:
الأول - صفي المغنم.
الثاني - الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس.
الثالث - الوصال.
الرابع - الزيادة على أربع نسوة.
الخامس - النكاح بلفظ الهبة.
السادس - النكاح بغير ولي.
السابع - النكاح بغير صداق.
الثامن - نكاحه في حالة الإحرام.
التاسع - سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي.
العاشر - إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى.
الحادي عشر - أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
الثاني عشر - دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف.
الثالث عشر - القتال بمكة.
الرابع عشر - أنه لا يورث.
وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصاً، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة «مريم» بيانه أيضاً.
الخامس عشر - بقاء زوجيته من بعد الموت.
السادس عشر - إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم معظمها مفصلا في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» [الأحزاب: ٦]. وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجُعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً. وكان من الأنبياء [من] لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر.
وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة. وقد أنشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة».
أولاً، نستخلص مما سبق أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أحق من الناس بكل شيء، بما في ذلك أنفسهم وزوجاتهم وأولادهم وممتلكاتهم وطعامهم وشرابهم، إلخ. ورد في القرآن الكريم:
«النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»،
فعلى المسلم أن يتخلى عن زوجته إذا رغب الرسول فيها، وعليه أن يضحي بحياته في سبيل حماية حياة الرسول، إلخ. وللرسول الأولوية في كل شيء، هذه هي الحقوق التي كان يتمتع بها داود (عليه السلام) وسليمان (عليه السلام)، وهذه هي حقوق كل نبي ورسول (عليهم السلام)، وما يُقبل في نبي واحد لابد من قبوله في كل نبي وما قُبل في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد من قبوله في المهديين (عليهم السلام)، إن حكم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس يماثل حكم
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
ولأن جميع المخلوقات هم خلق الله ولأنه هو سبحانه الذي يرزقهم، فإن رسله وملوكه الذين نصبهم يتمتعون بنفس حقوق الله على خلقه، فهم خلفاؤه وقد مُنحوا سلطة كاملة، ولو أرادوا أن يدمروا الخلق بأكمله فلهم ذلك.
﴿قُلْنَا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾.
إن حكم الملك المنصب إلهياً على الخلق كحكم الأب على ولده. في الإسلام، أي شخص يقتل شخصاً آخر بدون وجه حق (مثل الدفاع عن النفس، أو في الحرب، إلخ) يُقتل إلا الأب الذي يقتل ابنه. فالأب الذي يقتل ابنه لا يُتهم بالقتل لأنه وهب ابنه الحياة، وبالتالي فهو محصن من الملاحقة القضائية إذا قتله. قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
«أنا وعلي أبوا هذه الأمة ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار».
ثانياً، علينا أن نقول أنه بالنسبة لليهود والمسيحيين الذين يهاجمون النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجة العلاقات الجنسية أو كثرة الزيجات، أو بحجة الإشارة إلى مواضيع جنسية في النصوص الإسلامية فإن الكتاب المقدس والتوراة هما نفس الشيء تماماً إن لم يكونا أكثر صراحةً من القرآن والروايات. فعلى سبيل المثال، نشيد الأنشاد هو أحد أسفار العهد القديم التي تتحدث عن النبي سليمان (عليه السلام) الذي كان لديه، حسب الرواية التوراتية، ألف زوجة. نشيد الأنشاد بأكمله هو عبارة عن قصيدة بين سليمان (عليه السلام) وحبيباته وتروي بالتفصيل مشاعرهم وأفعالهم الجنسية تجاه بعضهم البعض. فيما يلي بعض الآيات للتبيان:
«مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ. سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ. ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ».
«قَامَتُكِ هذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ، وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ. قُلْتُ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بِعُذُوقِهَا». وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ، وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ. لِحَبِيبِي السَّائِغَةُ الْمُرَقْرِقَةُ السَّائِحَةُ عَلَى شِفَاهِ النَّائِمِينَ. أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ».
وورد كذلك في نفس السفر:
«كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي».
وفي سفر حزقيال نجد وصفاً جنسياً أكثر صراحة يشبه فيه الله السَّامِرَةُ وأورشليم بزانيتين تشتهيان رجالاً غرباء:
«وَأَكْثَرَتْ زِنَاهَا بِذِكْرِهَا أَيَّامَ صِبَاهَا الَّتِي فِيهَا زَنَتْ بِأَرْضِ مِصْرَ.
وَعَشِقَتْ مَعْشُوقِيهِمِ الَّذِينَ لَحْمُهُمْ كَلَحْمِ الْحَمِيرِ وَمَنِيُّهُمْ كَمَنِيِّ الْخَيْلِ.
وَافْتَقَدْتِ رَذِيلَةَ صِبَاكِ بِزَغْزَغَةِ الْمِصْرِيِّينَ تَرَائِبَكِ لأَجْلِ ثَدْيِ صِبَاكِ».
يصفون النبي محمد (صلى الله عليه وآله سلم) بكونه رجل غير تقي مهووس بالجنس، وحاشاه، وينسون ما فعله أول ملوك اليهود وأسلاف عيسى (عليه السلام) شاول وداود. كان شاول قد طلب من داود (عليه السلام) مهراً لابنته التي كان قد طلبها داود (عليه السلام) للزواج. لم يطلب شاول الذهب ولا الفضة، بل طلب مائة غلفة من الفلستيين، وهي الجلدة التي تُقطع عند الختان. رجع داود وجلب معه أكثر مما طلب شاول.
«فَقَالَ شَاوُلُ: «هكَذَا تَقُولُونَ لِدَاوُدَ: لَيْسَتْ مَسَرَّةُ الْمَلِكِ بِالْمَهْرِ، بَلْ بِمِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِلانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ». وَكَانَ شَاوُلُ يَتَفَكَّرُ أَنْ يُوقِعَ دَاوُدَ بِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. فَأَخْبَرَ عَبِيدُهُ دَاوُدَ بِهذَا الْكَلاَمِ، فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيْ دَاوُدَ أَنْ يُصَاهِرَ الْمَلِكَ. وَلَمْ تَكْمُلِ الأَيَّامُ حَتَّى قَامَ دَاوُدُ وَذَهَبَ هُوَ وَرِجَالُهُ وَقَتَلَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ مِئَتَيْ رَجُل، وَأَتَى دَاوُدُ بِغُلَفِهِمْ فَأَكْمَلُوهَا لِلْمَلِكِ لِمُصَاهَرَةِ الْمَلِكِ. فَأَعْطَاهُ شَاوُلُ مِيكَالَ ابْنَتَهُ امْرَأَةً».
وبما أن المهديين (عليهم السلام) هم ورثة الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، وبما أنهم يحكمون بحكم الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، فإن كل هذه الأمور التي أُجيزت للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يمكن أن تكون جائزة للمهديين (عليهم السلام) كما أُجيزت لجميع الأنبياء والمرسلين، ولا يوجد سبب وجيه يجعل أي شخص يعترض أو يرفض الإيمان على هذا الأساس. بل إنهم لو كتبوا شعراً جنسياً، أو تحدثوا بطريقة جنسية صريحة أو طلبوا قطع قُلْفات أعدائهم، فلن يكون هذا أيضاً سبباً وجيهاً لأن يعترض على حكمهم أو يرفض دينهم أي شخص. لأنه إذا قبل الإنسان هذا من أحد رسل الله، فعليه أن يقبله من جميع رسل الله. إذا قبل المسيحيون أن داود وسليمان (عليهما السلام) هم رسل من الله، فلا يمكن أن يرفضوا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لمجرد أنه فعل ما فعله أنبياؤهم. ويمكننا أيضاً أن نتوقع أنهم مثلما ألقوا يوسف (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاتهامات، فإنهم سيتّهمون أيضاً بعض المهديين (عليهم السلام) بنفس الشيء ولن يكون أي منها سبباً وجيهاً للشك أو الكفر أو الارتداد. لا يمكننا استخدام مفاهيمنا المسبقة حول الصواب والخطأ والخير والشر للحكم على الأنبياء والرسل (عليهم السلام) طالما أنهم يستوفون المعايير الثلاثة: الوصية، والعلم، والدعوة إلى حاكمية الله.
مثلما كان لنبي الله موسى (عليه السلام) رحلة مع العبد الصالح، كانت لي كذلك رحلتي مع الإمام أحمد الحسن (منه السلام). اصطحبني الإمام (منه السلام) في هذه الرحلة وقام بتأديبي وتعليمي. سوف أسلط الضوء هنا على جزء صغير من رحلتي مع الإمام أحمد الحسن (منه السلام).
ذات يوم قلت للإمام أحمد الحسن (منه السلام): «أبي، لقد سمعت علومك، والمسائل التي سألتك عنها سرها معك أنت فقط لا غيرك. أنا مستعد لسماع وقبول أي شيء منك ولا يوجد شيء يمكن أن تقوله لن أتحمله، أنْعِم علي بنور الحقيقة».
قال الإمام (منه السلام): «بوركت بني».
بعد فترة وفي إحدى الليالي جاءني الإمام (منه السلام) في وقت لم أكن أتوقعه على الإطلاق وحدثني بكلام جعل الصمت يحل عليَّ وهزني في الصميم وبدأت أتصبب عرقاً.
قلت للإمام (منه السلام): «حسناً، لكن ما الذي سوف يحدث؟».
أجاب الإمام (منه السلام): «أنت لست مؤمناً».
أصابني الإعياء فجأة ورغم أنني تقبلت ما قاله لي، إلا أنني اضطربت لما سمعت. اِبْيَضَّ جزء كبير من لحيتي وفقدت الشهية. لم تتحمل أعضاء جسدي أي طعام أو شراب واعتصر صدري وكنت بالكاد قادراً على التنفس. مرضت مرضاً شديداً وبقيت على هذه الحال دون طعام أو شراب لمدة شهر كامل. تركني الإمام (منه السلام) خلال هذه الفترة ولم يتحدث معي. بدأت أفقد الوزن سريعاً وأصبت بالحمى لمدة شهر كامل وشعرت بأنني أحتضر. ذات يوم وفي نهاية الشهر قلت للإمام (منه السلام): «أظن أنني أحتضر، أرجوك ساعدني أبي».
قال الإمام (منه السلام): «سوف أقول لك شيء، إن الله كان قد قدر أن تموت الليلة، بعد عشرين دقيقة من الآن بالضبط، لكني سأرفع الأمر عنك، اذهب للمستشفى».
ذهبت للمستشفى وأجرى الأطباء كل الفحوصات اللازمة ولم يجدوا أي علة بي. أجروا أشعة وتحاليل دم وكل ما يخطر ببالهم، وكانت كل النتائج طبيعية. قاموا بتعليق المحاليل لتزويد جسمي ببعض الطاقة التي كان في أمس الحاجة إليها بما أنني لم أكن قادراً على الأكل أو الشرب. فتحسنت حالتي وذهبت الحمى.
قلت للإمام (منه السلام): «ما الذي حدث؟ ذهبت للمستشفى ولم يجدوا أي علة بي».
قال الإمام (منه السلام): «ولن يجدوا أي علة بك، لأنه ليس بك شيء جسمانياً. كان من الله».
قلت: «أبي، أخبرنى آدم أنك قلت أن أغلب أنصار العراق يتراوح إيمانهم عند الـ ٧٠٪».
قال الإمام (منه السلام): «نعم بني، قلت هذا».
قلت: «هل يخص ذلك أنصار العراق فقط أم كل الأنصار؟».
قال الإمام (منه السلام): «أغلبهم هكذا، بل معظمهم».
قلت: «وماذا عني، أبي؟».
قال الإمام (منه السلام): «أنت ٩٠٪».
قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله، وما هي الـ ١٠٪؟ هل هي شك أم ماذا؟».
قال الإمام (منه السلام): «ليس شك، بل هو عدم التسليم في بعض الأمور».
قلت: «هل يوجد من لديه نسبة إيمان أعلى؟».
قال الإمام (منه السلام): «من معي ١٠٠٪، أنت ممكن أن تكون ٩٩٪ أو كان المفروض أن تكون ٩٩٪».
قلت: «إذن لا يمكن أن أكون هكذا الآن؟».
قال الإمام (منه السلام): «شيء واحد يجعلك تصل إلى هذا».
قلـت: «ما هو هذا الشيء الذي يجعلني أصل لذلك؟».
قال الإمام (منه السلام): «أن تخلع كل حب يفوق حب الله من قلبك، وسوف تكون ليس ٩٩٪ بل سوف تكون أحمد الحسن».
قلت: «أبي، هل هذا بخصوص ذلك الإختبار؟ كل هذا لأنني سألت: «ما الذي سيحدث؟». مع أنني لم أرفض، ثم قلت أنت أنني لست بمؤمن».
قال الإمام (منه السلام): «نعم، لا تسأل بني، لا تسأل إن كنت تثق بي، المفروض أنك تثق بي ثقة عمياء، ثقة كبيرة ليس لها حدود».
قلت: «أبي، لا أدري ماذا عساي أن أقول. لم أرَ المسألة على هذا النحو».
قال الإمام (منه السلام): «قل ما تشاء، لكن لا تقل ما لا تفعل».
قلت: «لقد أذنبت، عندما سألت كنت فقط…لا يهم، لا داعي لتقديم الأعذار أمامك. أنا مذنب وأنت بالفعل قلت كلمتك. لكن هل سأصل يوماً ما؟ أم انتهى أمري هكذا وسأظل عند الـ ٩٠٪؟».
قال الإمام (منه السلام): «بيدك أن تصل إلى التمام الآن، وبيدك أن تبقى هكذا وبيدك أن تتراجع».
قلت: «وماذا سيحدث حينها؟ هل سأموت وينتهي كل شيء؟».
قال الإمام (منه السلام): «لن يحصل هذا إن شاء الله».
قلت: «لقد قلت سابقاً أنني لن أُستبدل أو أموت وإلا ستموت أنت».
قال الإمام (منه السلام): «نعم قلت ذلك».
قلت: «هل يعني ذلك أني سأصل للتمام؟».
قال الإمام (منه السلام): «فلماذا تضع في عقلك هذا الاحتمال؟ احتمال التراجع».
قلت: «لا أضعه، لأني أعلم أني لن أكرر خطأي أبداً إن شاء الله، أبداً. كل يوم أتمنى لو أنني أستطيع الرجوع بالزمن، فذلك اليوم لا يغيب عن بالي، ولا أنسى ذلك الألم أبداً».
قال الإمام (منه السلام): «بني انزعوا كل إرث قديم تعلمتموه من أدمغتكم، فأنتم فوق الشريعة ولا تمتثلون لها، أنتم من عالم آخر حلاله غير هذا الحلال وحرامه غير هذا الحرام، افهموا أرجوكم، افهموا ما أريد، افهموا وتحرروا، تحرر بني تحرر».
قلت: «علمني أبي، علمني الحلال والحرام، أريد أن أكون».
قال الإمام (منه السلام): «بني وهل سوف تتحمل؟ هل سوف تصبر؟».
قلت: «والله أتحمل، لكن أخبرني».
علمني الإمام (منه السلام) الكثير من الأمور بعد ذلك، وتحملتها، كما أنني عوضت المسألة التي لم تعجبه. كنت لا أزال مضطرباً جداً مما حدث ومن أن الله سبحانه أراد قتلي. كنت على دراية بالنصوص التي ورد فيها أن الله أراد قتل موسى (عليه السلام) وغيره من قبل:
«وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ»،
لكن رغم ذلك شكل ما حدث معي صدمة كبيرة بالنسبة لي وهزني في صميمي. ذات يوم قررت أن أتحدث مع أبي (منه السلام) حول هذا الموضوع. كان يوم عيد ميلاده، في السنوات الأولى في الدعوة.
قلت: «أريد أن أعترف لك بشيء، لكني لم أشأ أن يكون هذا الاعتراف هديتي لك يوم عيد ميلادك».
قال الإمام (منه السلام): «أهلاً بك، سوف تكون أجمل هدية طالما أنها [الاعتراف] فضيلة».
قلت: «أشعر بالقلق وبالاضطراب، وأطلب منك السماح والعفو مقدماً».
قال الإمام (منه السلام): «مسامح مقدماً ومغفور لك مقدماً».
انهمرت الدموع من عيني وقلت: «شكراً أبي، في البداية كنت أعتقد أن الله معي، وهو حاميني، وكنت أشعر أنه سبحانه حولي في كل مكان، ويعطيني إشارات وعلامات ويكلمني على لسان الناس، وكنت أكلمه ليلاً ونهاراً، وأراه في القمر والشمس وفي الأحجار والنجوم».
قال الإمام (منه السلام): «واعتقادك صحيح».
قلت: «لكن عندما مرضت وأخبرتني أن الله أراد أن يقتلني الساعة الثانية صباحاً، غمرني شعور بأن الله مستغني عني وربما يقتلني على أي شيء».
قال الإمام (منه السلام): «الله لن يستغني عن عباده الصالحين، إن الله عز وجل يربي ويؤدب، يوصلك للموت ولا يقتلك، ثم فجأة يرجعك ليريك الصواب ويعدل مسيرك، ليكن عندك يقين بشيء تحافظ عليه إلى آخر يوم بحياتك، بل إلى آخر لحظة».
قلت: «نعم أبي».
قال الإمام (منه السلام): «حتى لو قتلك الله فهو حق».
قلت: «نعم».
قال الإمام (منه السلام): «هذا على سبيل المثال، نوح (عليه السلام) وصل إلى حلق الموت ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً وكثير من الأنبياء والأوصياء».
قلت: «لماذا أبي؟».
قال الإمام (منه السلام): «لأنهم ليسوا بشر عاديون، وكان خطأهم محسوب عليهم، يفعل الله عز وجل معهم ذلك ليعلمهم ويربيهم ويقوي عزيمتهم ويشد عضدهم».
قلت: «لكن ألم يكن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً عصمة ذاتية في وقتها ولم تكن لديه أخطاء؟».
قال الإمام (منه السلام): «ليس عنده خطأ يضل به العباد ومعصوم عصمة تجعله لا يضل أحداً لكن هو يخطئ في حياته مع نفسه لكن لا تظن أنها أخطاء كبيرة، إنها سهلة جداً وبسيطة جداً ربما أنت لا تجعلها في الحسبان، لكن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كبيرة لأنها لا ينبغي أن تخرج من رجل مثله، ربما خطأ واحد فقط وتعلم منه الكثير، ونوح أيضاً وغيرهم، وأيوب، لكنهم يختلفون عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)».
قلت: «ما حدث أبي جعلني أفكر في كثير من الأمور وجعلني أتساءل، إن قتلني الله فأين سأذهب؟ إلى النار أم إلى أين؟».
قال الإمام (منه السلام): «هذه الأسئلة تنبع من الضمير الحي لكن كن على ثقة به أنه يربيك ولا يقتلك، يريك مرارة وعذاب الموت ولا يطبق هذا عليك، يريك جهنم ولا يرميك بها أو فيها».
قلت: «يبدو أن هذا يحدث معي كثيراً، فقد حدث مع إرميا وإدريس».
قال الإمام (منه السلام): «نعم قلت لك أنه حصل مع كثير من الأنبياء والأوصياء، بني الحبيب هذا بحر كبير وسوف تتعلم في كل ساعة تمر أمراً جديداً، حتى يكون عظمك أقسى من الصخر».
انتهى هذا الفصل بالنسبة لي، وأدركت نوع التسليم المطلوب، تسليم وثقة تامة. وواصلت السير في طريقي مع الأب الصالح. ذات يوم أردت أن أتعلم من أبي ما كنت أعتبره أعظم معجزة قام بها واحد من أعظم الأنبياء (عليهم السلام)، وهو عيسى (عليه السلام). هذه المعجزة هي إحياء لعازر من الموت.
قلت: «عندما سأل إبراهيم (عليه السلام) الله في القرآن أن يريه كيف يحيي الموتى، هل فعل ذلك باسم الله الأعظم أم بشيء آخر؟».
قال الإمام (منه السلام): «لا ولدي، هذا علم عظيم لكن يستطيع من يملك الاسم الأعظم أيضاً فعل هذا، وهذا يسير عنده».
قلت: «وكيف فعلها أبي؟ هل يمكن أن تعلمني؟».
قال الإمام (منه السلام): «لو علمتك هذا فلن يبقى لأخيك اليسوع شيء».
قلت: «علمني أبي».
قال الإمام (منه السلام): «تستطيع بيقينك أن تحيي الموتى».
قلت: «أريد أن أفعل ذلك، أريد أن أرى قدرة الرب وقوة العقل».
قال الإمام (منه السلام): «طيب، سوف أعلمك بشرط، سوف أخبرك به بعد غد الجمعة، إن استطعت فعله سوف أعلمك وإن لم تستطع فلن أعلمك، إتفقنا ولدي؟».
قلت: «نعم».
جاء يوم الجمعة وسألته (منه السلام) عما كان قد وعدني به.
قلت: «أبي، ما هو الأمر الذي كنت تريد أن تعرف إذا كان بإمكاني فعله؟».
قال الإمام (منه السلام): «هل تعلم لا يتحمل قلبي أن أخبرك به».
قلت: «لماذا أبي؟».
قال الإمام (منه السلام): «أنت تريد أن تتعلم كيف تحيي الموتى».
قلت: «نعم».
قال الإمام (منه السلام): «هذا لا يكون إلا أن يكون لك إيمان مطلق والإيمان أن لا حول ولا قوة إلا بالله».
قلت: «إيمان مطلق بالله أم بنفسي أنني أستطيع فعل ذلك أم ماذا؟».
قال الإمام (منه السلام): «في الله سبحانه وتعالى وفي نفسك أنك تستطيع فعل هذا بلا حول ولا قوة إلا بالله وفي نفس الوقت تؤمن أنك لا تستطيع فعل شيء دون رحمة الله عليك، حين تصل يوجد شيء تأخذه مني، لكن العماد هو أن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
قلت: «وكيف أعرف أني وصلت؟».
قال الإمام (منه السلام): «سوف أكون قد علمت أنك وصلت إلى هذا قبل أن تعلم أنت».
قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله، ما معنى هذا أبي؟».
قال الإمام (منه السلام): «بني، سوف أقولها لك صراحةً».
قلت: «أرجوك أبي وضح لي».
قال الإمام (منه السلام): «حين تؤمن أنك إذا قتلت مليكة وقطعتها إرباً وتؤمن أن الله قادر على إرجاعها، حينها سوف أقول لك يا عبد الله الفقير أنك الآن لا خوف عليك ولا تحزن، وأنا والدك أحمد أقول لك أمر، أنك قادر على هذا، وسوف يأتي يوم تصل فيه إلى هذا».
تعلمت هنا معنى اليقين وفهمت أن المطلوب هو اليقين المطلق وأدركت معنى أن يشعر الإنسان بهذا اليقين وكيف ينبغي أن يكون هذا اليقين إذا كنا سنقيم دولة عدل إلهي وإذا كنا سنصنع المعجزات مثل الأنبياء والرسل السابقين (عليهم السلام). فإذا كنا حقاً مؤمنين فينبغي علينا ألا نخاف شيء وأن يكون لدينا ثقة تامة ومطلقة بالله. واصلت السير في طريقي مع الأب الصالح.
ذات يوم قلت للإمام (منه السلام): «أريد أن أكتمل».
قال الإمام (منه السلام): «أريدك أن تذهب وتشعل ناراً، ناراً هائلة، وتغذيها بحيث يستطيع أن يقف فيها مجموعة من الأفراد، وتكون ساخنة جداً لدرجة أنك إذا رميت فيها الحديد، يذوب ويصبح سائلاً».
قلت: «حاضر، سأفعل». جمعت بضعة من أصحابي وأشعلنا ناراً ضخمة وبقينا نغذيها بقطع من الأثاث وأغراض أخرى حتى بلغت من الحر ما لا يتحمله أي شخص واقفاً حولها. كنا نشعر بلهيبها على وجوهنا وباحتراق الشعر على أذرعنا ووجوهنا من شدة الحرارة.
قال الإمام (منه السلام): «الآن أدخل فيها أنت وأصحابك».
صُعقت ونظرت إلى النار ولهيبها، عرفت أن هذه هي اللحظة الحاسمة، فإما الموت الفوري أو معجزة. أغمضت عيناي وقلت: «نعم أبي، فلتكن مشيئتك». وركضنا أنا وأصحابي نحو النار حتى وصلنا إلى وسطها. تملكنا الذهول، فلم نشعر بحر النار، فقد كانت برداً وسلاماً. لم نحترق ولم نمت. وقفنا ساكنين نشاهد ألسنة اللهب وهي تبتلع كل ما حولنا. وأبصرت في النار رؤى، رأيت حياتي الماضية تحترق، من كنت ومن اعتدت أن أكون. رأيت كل السيناريوهات المستقبلية البديلة لحياتي تحترق وتتحول إلى رماد. أدركت أن من خلال قراري أن أدخل إلى النار، احترقت نفسي ولم تبقى لها أي احتمالات أخرى غير التي اختارها هو لي. لم يحترق جسدي، بل احترقت مشيئتي وشكوكي ومخاوفي ورغباتي وتحولت إلى رماد، ولم يبق إلا أحمد الحسن (منه السلام)، صوته الذي بداخلي، بورك من في النار ومن حولها. عندئذ خطى الإمام (منه السلام) إلى النار.
قال الإمام (منه السلام): «اليوم أثبت أصحابك لك أنهم مؤمنون بك، وأثبتَّ أنت لنفسك أنك قادر على أي شيء».
بكيت من شدة الفرح وقلت: «شكراً، أبي».
قال الإمام (منه السلام): «هذا دليل لك أنت، وأما أنا فلا أحتاج مثل هذا كي يكون دليل لي، فأنا أعرف خفايا القلوب، أنظر فيها متى شئت فأعلم ما في داخلها، أحبك بني».
قلت: «سامحني على كل تقصيري في حقك، أحبك أبي».
قال الإمام (منه السلام): «عليك وعلى أصحابك ألف تحية وسلام».