من خلال هذا الفهم الجديد ومع كشف الإمام أحمد الحسن (منه السلام والرحمة) أصل قابيل بن إبليس (لعنهما الله)، يتضح لنا الآن أن الغاية من الطوفان كانت تطهير الأرض من ذرية إبليس الملعونة، بالإضافة إلى كونه عقاباً على نقض العهد. في كل مرة يتم فيها نقض العهد، يُنزل الرب عذاباً على الأرض ومن ثم يقيم عهداً جديداً مع البشرية. كانت عقوبة نقض العهد الأول - عندما أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة - هي نفي آدم من جنة عدن. سامحهم الله ولكن عندما نكث الناس العهد مرة أخرى بكفرهم ومحاربتهم لنوح والأنبياء من بعد آدم (عليهم السلام)، عاقبهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان.
قضى نوح (عليه السلام) سنوات عديدة يخطب في الناس ويدعوهم إلى الله ويحاول إصلاحهم. ولكنهم أعرضوا عن نوح ولم يرغبوا في الاستماع إليه، حيث يذكر القرآن الكريم أنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم حتى لا يستمعوا لنوح. وكانت الأرض في ذلك الوقت قد امتلأت بأبناء قابيل الذين شيدوا مدناً عظيمة وأنجبوا العديد من الأولاد. وكان الله قد وعد الشيطان بأنه سيمنحه عدداً من الأبناء يفوق ما سيمنحه لآدم. وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد. قال الإمام الصادق (منه السلام) في إحدى الروايات:
«...فأول من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أول معصية عصي الله بها، قال: فقال إبليس: «يا رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل»، فقال الله: «لا حاجة لي إلى عبادتك، إنما أريد أن أُعبد من حيث أريد لا من حيث تريد»، فأبى أن يسجد فقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌۭ ۞ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ قال إبليس: «يا رب فكيف وأنت العدل الذي لا تجور فثواب عملي بطل؟» قال: «لا ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك»، فأول ما سأل البقاء إلى يوم الدين، فقال الله: «قد أعطيتك»، قال: «سلطني على ولد آدم»، قال: «سلطتك»، قال: «أجرني فيهم مجرى الدم في العروق»، قال: «قد أجريتك»، قال: «لا يولد لهم واحد إلا ولد لي اثنان…».
وقد منح الله هذه الذرية لإبليس من خلال قابيل. ورد في رسالة يوحنا الرسول الأولى:
«لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّة».
عصى أبناء قابيل الله وظلموا أبناء آدم وارتكبوا جرائم شنيعة في السنوات بين آدم ونوح (عليهما السلام). وفي النهاية أمر الله نوح (عليه السلام) أن يصنع الفلك. عن أبي عبد الله (منه السلام) قال:
«سأل نوح (عليه السلام) ربه أن ينزل على قومه العذاب، فأوحى الله إليه أن يغرس نواة من النخل، فإذا بلغت فأثمرت وأكل منها، أهلك قومه وأنزل عليهم العذاب. فغرس نوح النواة وأخبر أصحابه بذلك، فلما بلغت النخلة وأثمرت واجتنى نوح منها وأكل وأطعم أصحابه، قالوا له: «يا نبي الله، الوعد الذي وعدتنا»، فدعا نوح ربه، وسأل الوعد الذي وعده. فأوحى إليه أن يعيد الغرس ثانية حتى إذا بلغ النخل وأثمر وأكل منه، أنزل عليهم العذاب، فأخبر نوح (عليه السلام) أصحابه بذلك، فصاروا ثلاث فرق: فرقة ارتدت، وفرقة نافقت، وفرقة ثبتت مع نوح، ففعل نوح ذلك حتى إذا بلغت النخلة وأثمرت وأكل منها نوح وأطعم أصحابه، قالوا: «يا نبي الله، الوعد الذي وعدتنا»، فدعا نوح ربه. فأوحى إليه أن يغرس الغرسة الثالثة، فإذا بلغ وأثمر، أهلك قومه، فأخبر أصحابه، فافترقت الفرقتان ثلاث فرق: فرقة ارتدت، وفرقة نافقت، وفرقة ثبتت معه، حتى فعل نوح ذلك عشر مرات، وفعل الله ذلك بأصحابه الذين يبقون معه فيفترقون كل فرقة ثلاث فرق على ذلك، فلما كان في العاشرة جاء إليه رجال من أصحابه الخاصة المؤمنين فقالوا: «يا نبي الله، فعلت بنا ما وعدت أولم تفعل فأنت صادق نبي مرسل لا نشك فيك، ولو فعلت ذلك بنا»، قال: فعند ذلك من قولهم أهلكهم الله لقول نوح، وأدخل الخاص معه في السفينة، فنجاهم الله تعالى، ونجى نوحا معهم بعد ما صفوا وهذبوا وذهب الكدر منهم».
في تلك الأيام كان نوح متزوجاً من امرأة من بنات قابيل اسمها نوريا، أي النار. كانت غير وفية لنوح وخانته. وبعد المرة الأولى التي بنى فيها الفلك، حاولت نوريا الصعود إلى الفلك ولكن بسبب سوء فعلها، لم يسمح لها نوح بذلك، فأضرمت النار في الفلك وأحرقتها، وهذا هو سبب تأخر وعد الله وتأخير العذاب. جاء في النص الغنوصي بعنوان «واقع الحكام» الذي عُثر عليه ضمن مخطوطات نجع حمادي:
«تشاور الحكام مع بعضهم البعض وقالوا: «تعالوا، دعونا نُحدث طوفاناً بأيدينا ونبيد كل الأجساد، من الإنسان إلى الحيوان». ولكن لما علم حاكم القوى بقرارهم، قال لنوح: «اصنع لنفسك فلكا من خشب لا يفسد وإختبئ فيه، أنت وأبناؤك والوحوش وطير السماء من الأصغر للأكبر وإجعلها تستقر على جبل سعير». ثم جاءت إليه نوريا وأرادت الصعود إلى السفينة، عندما رفض نفخت في السفينة وأضرمت فيها النيران. صنع السفينة مجدداً، للمرة الثانية».
في كتابات حول إحدى الطوائف الغنوصية في مصر، أعطى المؤرخ المعروف إبيفانيوس مزيداً من التفاصيل حول قصة نوريا والسفينة. وكتب أنها طلبت الدخول إلى الفلك ثلاث مرات وأحرقتها ثلاث مرات، كل ذلك لأنها كانت تؤمن بالفعل أن هناك طوفان قادم، لكنها اعتقدت أيضاً أن نوح كان يخطط للتخلص منها في الطوفان. والحقيقة هي أنها أحرقت الفلك عشر مرات، وفي كل مرة كانت تفعل ذلك في الخفاء. وفي جميع المرات العشر، كان يصاب أصحاب نوح بالصدمة ويدخلهم الشك ويتساءلون لماذا يسمح الله بإحراق الفلك إن كان نوح بالفعل نبياً؟ وبسبب إحراق الفلك، تأخر الوعد عشر مرات، وجعل الله من هذه الأحداث اختباراً وفرصة لتخليص مجتمع نوح المؤمن من أي مشككين. رحم نوح نوريا وسمح لها في النهاية بركوب الفلك. ورد في سفر التكوين ما يلي:
«فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ دَخَلَ نُوحٌ، وَسَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ بَنُو نُوحٍ، وَامْرَأَةُ نُوحٍ، وَثَلاَثُ نِسَاءِ بَنِيهِ مَعَهُمْ إِلَى الْفُلْكِ».
وهذا يعني أن ثمانية أشخاص أو أربعة أزواج ركبوا الفلك في ذلك اليوم. وتذكر الكثير من المصادر العربية أن سبعة فقط بقوا مؤمنين بنوح (عليه السلام) وهم زوجة نوح وأبناؤه الثلاثة وزوجاتهم الثلاث. عن حمران عن أبي جعفر (منه السلام) في قول الله: ﴿وما آمن معه إلا قليل﴾ قال: «كانوا ثمانية».
كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية للسماح لنوريا بركوب السفينة:
«جاء إبليس إلى نوح فقال: «إن لك عندي يدا عظيمة فانتصحني فإنى لا أخونك»، فتألم نوح بكلامه ومسألته، فأوحى الله إليه أن كلمه وسله فإني سأنطقه بحجة عليك فقال نوح (صلوات الله عليه): «تكلم» فقال إبليس: «إذا وجدنا ابن آدم شحيحا أو حريصا أو حسودا أو جبارا أو عجولا تلقفناه تلقف الكرة فإن اجتمعت لنا هذه الأخلاق سميناه شيطاناً» فقال نوح: «ما اليد العظيمة التي صفت؟» قال: «إنك دعوت الله على أهل الأرض فألحقتهم في ساعة بالنار فصرت فارغاً. ولولا دعوتك لشغلت بهم دهراً طويلا».
لم تستحق نوريا أن تصعد إلى السفينة، لكن إكراماً لنوح (عليه السلام) ولأن نوريا لم ترغب في هلاك البشر، شملها الله برحمته وسمح لها بركوب السفينة. ورد في الكتاب المقدس في سفر التكوين:
«وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ: «ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ، لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِي هذَا الْجِيلِ».
وإليكم رواية أخرى عن واقعة غريبة حدثت بعد الطوفان:
«لما يئس نوح من هداية المشركين الضالين، طفق يصنع الفلك بأمر الله عز وجل…وعندما أصبح كل شيء جاهزاً شكا نوح الى الله من قومه المشركين ودعا الله أن يهلكهم كلهم أجمعين، ولأنه كانت قد تمت الحجة عليهم فقد بعث الله العذاب عليهم، فأخذت الأمطار تهطل وتسيل السيول وحصل الطوفان الشامل وأتى على كل العاصين فأهلكهم. وبعد أن أُبيد الكفرة توقف المطر وغيض الماء واستقرت سفينة نوح على مرسى لها وبلغت محطتها الأخيرة ونجا المؤمنون بنوح ونزلوا من السفينة وانهمكوا في أعمالهم وشؤونهم الحياتية المختلفة. وكانت مهنة نوح صنع الجرار الخزفية فكان يعدّها ويبيعها للناس ويوفر ما يحتاجه من المستلزمات الحياتية من ثمنها، ويوماً جاءه مَلَك في هيئة إنسان وابتاع من نوح عدداً من الأواني الفخارية، ثم أخذ يكسرها ونوح ينظر إليه. وكلما كان يحطم جرّة منها كان نوح يغتم ويتألم دون أن ينبس ببنت شفة. وأخيراً لم يطق نوح الصبر على رؤية منظر تحطيم الجرار التي صنعها وباعها للتو، وصاح بقوة معترضاً على ذلك الرجل (المَلَك):
- ماذا تصنع يا رجل؟! لما تُكسّر الجرار التي صنعتها بيدي؟!
أجابه الرجل (المَلَك):
- لقد إشتريتها منك فصارت مُلكاً لي ولم تعد لك علاقة بها وأستطيع أن أتصرَّف بها كيفما أشاء.
قال نوح:
- صحيح أنك إشتريتها مني، لكنني بذلت جُهداً شاقاً وأتعبتُ نفسي حتى صنعتها وبقيت أُحبَّها حتى بعد أن إبتعتها مني ولستُ أرضى بإتلاف ثمار أتعابي ونتائج جهودي.
أجابه الرجل (المَلَك):
- إنك لم تخلق هذه الجرار بل صنعتها وحسب ولكنك - مع ذلك - لا تُطيق رؤية منظر تحطيمها، فكيف دعوت الله بأن يُهلك مخلوقاته كلها أجمعين؟!
وإثر هذه الحادثة، طفق نوح يبكي وينوح نوحاً شديداً حتى أسماه الناس «نوحاً».
ونستخلص من هذه الواقعة أنه على مدار كل تلك السنين، منذ وقوع الطوفان وحتى بعد استقرار السفينة، كان الله لا يزال يعاتب نوح على دعائه على قومه بالهلاك ووبخه على ذلك رغم مرور كل تلك الفترة.
بعد الطوفان أقام الله عهداً جديداً مع نوح (عليه السلام)، وهو عهد يختلف عن العهد الأول حيث شمل العهد الثاني تشريعات وأحكام جديدة لم تكن موجودة في العهد الأول. وقد ذُكر عهد نوح وأحكامه بالتفصيل في الكتاب المقدس:
«وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ. وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ، مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ. كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَامًا. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ. غَيْرَ أَنَّ لَحْمًا بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ، لاَ تَأْكُلُوهُ. وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَقَطْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أَطْلُبُهُ. وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَطْلُبُ نَفْسَ الإِنْسَانِ، مِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَخِيهِ. سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ. فَأَثْمِرُوا أَنْتُمْ وَاكْثُرُوا وَتَوَالَدُوا فِي الأَرْضِ وَتَكَاثَرُوا فِيهَا». وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ مَعهُ قَائِلًا: «وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، وَمَعَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمِ: الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَكُلِّ وُحُوشِ الأَرْضِ الَّتِي مَعَكُمْ، مِنْ جَمِيعِ الْخَارِجِينَ مِنَ الْفُلْكِ حَتَّى كُلُّ حَيَوَانِ الأَرْضِ. أُقِيمُ مِيثَاقِي مَعَكُمْ فَلاَ يَنْقَرِضُ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَيْضًا بِمِيَاهِ الطُّوفَانِ. وَلاَ يَكُونُ أَيْضًا طُوفَانٌ لِيُخْرِبَ الأَرْضَ». وَقَالَ اللهُ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ: وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاق بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ. فَيَكُونُ مَتَى أَنْشُرْ سَحَابًا عَلَى الأَرْضِ، وَتَظْهَرِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أَنِّي أَذْكُرُ مِيثَاقِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ. فَلاَ تَكُونُ أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ». وَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا أَقَمْتُهُ بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ ذِي جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ».
كان الأمر الإلهي الأول الذي أعطاه الله لنوح (عليه السلام) هو نفس الأمر الإلهي الذي كان قد أعطاه لآدم (عليه السلام)، وكان هذا الأمر هو «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ». اختار الله نوحاً كما اختار آدم، وبارك نوحاً كما بارك آدم (عليهما السلام). هذا الأمر بالإثمار والتكاثر بقي كما هو من العهد الأول إلى الثاني ولم يتغير. لم يشمل العهد الثاني النهي عن الشجرة وذلك لأن الشجرة كانت في جنة عدن والبشرية أصبحت تعيش الآن خارج جنة عدن، وبالتالي لم يعد النهي عن شجرة العلم أمراً وارداً. وأعطى الرب لنوح (عليه السلام) أوامر جديدة لم تكن في العهد الأول ولم تكن موجودة من قبل، مثل جواز أكل اللحوم. حرم الله على نوح (عليه السلام) تناول الحيوانات حية، ولم يُسمح لنوح (عليه السلام) بأكل الحيوانات إلا تلك التي ذُبحت قرباناً للرب. وهذا هو أصل التشريع الإسلامي الذي لا يجيز أكل لحوم الحيوانات إلا المذبوحة بالطريقة الحلال، أي في إتجاه القبلة مع تلاوة اسم الله عليها. هكذا كان يتم ذبح الحيوانات لتقديمها قرابين. حرم الله كذلك في العهد الثاني سفك دم الإنسان وقتل أي كائن حي، وتوعد مرتكبه بالحساب ونص على أن القاتل يُقتل.
أولو العزم هو لفظ قرآني يشير إلى أنبياء العهود (عليهم السلام). أنبياء العهود (عليهم السلام) هم الذين كُلفوا بوضع الأحكام والشرائع السماوية للبشرية، وعدد أنبياء العهود (عليهم السلام) الذين أُرسلوا للبشرية خمسة وهم: النبي نوح والنبي إبراهيم والنبي موسى والنبي عيسى والنبي محمد (عليهم الصلاة والسلام أجمعين). أما بالنسبة لآدم (عليه السلام) فهو صاحب عهد إلهي كذلك إلا أنه ليس من أولي العزم لأنه نقض العهد. عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
قول الله ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ فقال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى جميع أنبياء الله ورسله»، قلت: «كيف صاروا أولي العزم؟» قال: «لأن نوحا بُعث بكتاب وشريعة فكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به فكل نبي جاء بعد إبراهيم جاء بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة ترك الصحف، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فجاء بالقرآن وشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولو العزم من الرسل».
إذن جميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) الذين بلغ مجموعهم مائة وأربعة وعشرون ألفاً، تندرج جميع رسالاتهم تحت واحدة من الشرائع المذكورة، من شريعة آدم إلى شريعة محمد (عليهم السلام أجمعين)، حيث عمل نبي الله هابيل وشيث وأخنوخ وبقية الأنبياء الذين كانوا بين آدم ونوح (عليهما السلام) بشريعة عهد آدم، واستمر العهد الثاني مع نوح (عليه السلام) حتى زمن إبراهيم (عليه السلام).
كان من المفترض أن تتطهر الأرض من نسل إبليس (لعنه الله) وأبناء قابيل، إلا أن نوح (عليه السلام) كان قد تزوج بامرأة من نسل قابيل كما سبق. أنجب نوح ونوريا ثلاثة أبناء: سام وحام ويافث، وأنجبت زوجته أيضاً ابناً رابعاً وكان اسمه يام، لكنه لم يكن من نسل نوح (عليه السلام)، وهذا واضح وجلي في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى:
﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ۞ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. وقال الله تعالى في سورة التحريم: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾.
حاول علماء الإسلام لسنوات طويلة تفسير هذه الآيات بعدة طرق، قال بعضهم أن الخيانة كانت خيانة في العقيدة وليست خيانة زوجية لأن زوجات الأنبياء يستحيل أن يَخُنَّ أزواجهن، قالوا كذلك أن ابن نوح المذكور في القرآن كان ابنه البيولوجي، على الرغم من أنه وُصف بالوصف القرآني ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، حيث يجمع العلماء المسلمون على أن ابن نوح كان فقط يدين بدين آخر غير أبيه. ولكن إذا قرأت القرآن بشكل موضوعي دون أن يكون لديك افتراضات مسبقة حول قداسة أو براءة الشخصيات، فإن الحقيقة تصبح واضحة، والحقيقة هي أن زوجة نوح قد خانته بالفعل. عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ تُوبُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةًۭ نَّصُوحًا﴾ قال عليه السلام: «يتوب العبد ثم لا يرجع فيه وإن أحب عباد الله إلى الله المتقي التائب» قال علي بن إبراهيم في قوله (ضرب الله مثلا) ثم ضرب الله فيهما مثلا فقال: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍۢ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍۢ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ فقال: «والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة».
وحملت امرأة نوح وأنجبت ابناً غير شرعياً واعتقد نوح (عليه السلام) أنه ابنه، لكنه لم يكن ابنه البيولوجي و﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ كما ورد في القرآن. وأكدت روايات آل بيت محمد (منهم السلام) هذه الحقيقة: عن زرارة عن أبي جعفر (منه السلام) في قول نوح:
﴿يا بني اركب معنا﴾ قال: «ليس ابنه» قال: «قلت: إن نوحاً قال: يا بني؟» قال: «فإن نوحاً قال ذلك وهو لا يعلم».
والآن يتضح لنا معنى رد هذا الإبن في القرآن عندما قال: ﴿سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍ﴾ حيث لم يكن هذا الجبل جبل مادي على الإطلاق، بل كان أبيه البيولوجي الذي خانت نوريا نوحاً معه، وكان من العلماء غير العاملين أصحاب النفوذ. ومن الجدير بالذكر أن «جبل» كان في الحقيقة اسم يستخدم في ذلك الزمان حيث تذكر التوراة رجلاً باسم «جبل» أو «يابال» كان يعيش في زمن نوح (عليه السلام) وكان معروفاً بكونه «أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي».
يستشهد هنري كوربين في كتابه «سويدنبورغ والإسلام الباطني» بتفسير غنوصي يعطي شرحاً أكثر عمقاً للرموز المحيطة بالفلك والجبل الذي لجأ إليه ابن نوح:
«﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ (سورة هود، الآية ٤٢) ومعناها: الإمام، والذي يملك التعاليم الباطنية، يسبح في دعوته مثل الفلك الروحانية، ومعه كل أولئك الذين استجابوا لدعوته، على محيط المعرفة، يسبح من حد إلى حد، من أجل إدخال كل فرد في المعارف الروحية العليا، الأمواج التي يواجهها، الشاهقة كالجبال، هم علماء الشريعة، علماء الظاهر، الذين يحسبون أنفسهم أصحاب علوم مع أنهم لا يملكون أي علم حقيقي، لهذا يخرون أمام الإمام كما تخر أمواج البحر بعدما توهموا أنهم جبال شاهقة. الدعوة الإلهية (الفلك الروحانية) تسبح فوق رؤوس أولئك الذين يتكبرون ويحسبون أنفسهم علماء. تشقهم كما تشق السفينة الأمواج. تطفو فوقهم بينما يخيفون الناس بعلمهم الضحل، يقومون بتضخيم أنفسهم كما ترتفع أمواج البحر وتصطدم ببعضها البعض… ولكن الذين دخلوا الدعوة يحتمون من ضلالهم، مثلما يحتمي المسافر في السفينة من الأمواج».
ولهذا السبب نصحنا الإمام أحمد الحسن (منه السلام) بقراءة القرآن ككتاب عادي مع رفع الهالة القدسية التي نضعها حول أفعال الشخصيات التي ترويها القصص، وهذا يعطي مساحة لفهم أصدق وأكثر موضوعية وأكثر تماشياً مع التاريخ بدلاً من التفسيرات المتحيزة القائمة على أفكار مسبقة حول الشخصيات والأحداث التي وردت. بالإضافة إلى ذلك، من المهم أيضاً مراعاة المعاني الرمزية غير الحرفية.
جمعت بعض المصادر والروايات العربية بين يام وكنعان وجعلتهما شخصاً واحداً. لكنهما ليسا شخصاً واحداً بإسمين، بل كانا في الحقيقة شخصين مختلفين. كان يام هو الابن الذي غرق، أما كنعان فهو أبو الكنعانيين وقد وُلد بعد الطوفان. ينحدر الكنعانيون من نسل كنعان، وهم أصحاب حضارة ناطقة باللغة السامية وتوالى ذكرهم في الكتاب المقدس، ولو كان كنعان قد غرق في الطوفان لما كان للكنعانيين وجود اليوم. وعمد الرواة إلى الجمع بين شخصية يام وكنعان لأن كلاهما ليسا أبناء نوح من الناحية البيولوجية، وقد وُلد أحدهما قبل الطوفان والآخر بعد الطوفان.
وتثبت التوراة والأناجيل كلام القرآن عن زوجة نوح وابنها حيث ورد في التوراة في سفر التكوين:
«وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ».
اختلف علماء الكتاب المقدس في معنى القصة وفي معنى «فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ» ولكي نفهم المعنى الحقيقي لهذه الكلمات يجب أن ننظر في سفر اللاويين: «وَإِذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَقَدْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَبِيهِ. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ كِلاَهُمَا. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا».
الآن يتضح المعنى، فقول «كشف عورة أبيه» أو «رؤية أبيك عاريا» كان يعني عند الناس في العصور القديمة أن يجامع الرجل زوجة الأب، لأن عورة الرجل هي زوجته. إذن زوجة نوح حملت بطفل من ابنها، ولعن نوح الطفل الذي لم يكن قد وُلد بعد وسماه «كنعان»، وهو ما يعني حرفياً «من قابيل» إشارة إلى أنه سيكون عملاً غير صالحاً أو ذرية غير صالحة: ابن قابيل أو الشيطان. ولكي نبرهن على هذه النقطة أكثر ونثبت أن كنعان كان بالفعل من ذرية زوجة نوح وابنها حام، دعونا نقرأ الآيات التالية من التوراة: «وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ». وورد في سفر التكوين: «فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا». وهكذا ثبت أن حام هو أبو كنعان وليس غيره. دعونا ننظر الآن لنرى من هي الأم. ورد في سفر التكوين ما يلي: «فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». يلعن نوح هنا كنعان ليصبح عبداً لإخوانه، ولكن من هم إخوة كنعان؟ جاء في سفر التكوين: «لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ». إذن أخوة كنعان هما يافث وسام. وحام هو أبو كنعان وأخوه في نفس الوقت.
من كنعان جاء أهل سدوم وعمورة (قوم لوط) ومنه جاء النمرود وغيرهم من الكفار والطغاة، وجاء منه كذلك أُناس صالحين: ﴿يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَيُحْىِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ﴾. ومن سام جاء الأنبياء والمرسلون الساميون وجاء نسل آدم (عليه السلام). قال رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «سام أبو العرب [واليهود (كل الساميين)] ويافث أبو الروم وحام أبو الحبش». وكان سام خليفة نوح (عليه السلام) ويعتبر من أهم أنبياء الديانة المندائية، وهناك العديد من المخطوطات والكتب في الديانة المندائية التي تتحدث عنه. وكانت إحدى معجزات النبي عيسى (عليه السلام) إحياء سام من قبره.
قال الله تعالى في القرآن:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِۦٓ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّۢ ۚ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلًا﴾ وقال الله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِى ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾
وهذا يعني أن عهد الله كان مع آدم (عليه السلام) وذريته فقط، وليس مع إبليس (لعنه الله) وذريته، أي أن عهد الله يكون مع المؤمنين فقط وليس الكفار. وهذه نقطة مهمة يجب أن ننتبه لها ولهذا السبب نجد أن دين الله الحقيقي على مر القرون ظل دائماً سراً مصوناً. أمر الله آدم ونسله بإلتزام الصمت وإبقاء التعاليم الإلهية سراً وممارسة التقية مع قابيل وذريته حتى لا يعرفوا دين الله الحقيقي. وذلك لعدة أسباب، من بينها العداوة والحسد الذي كان يضمره إبليس وذريته لآدم (عليه السلام) ونسله، وأيضاً عدم قدرة إبليس ونسله على تحمل حجم مسؤولية ممارسة دين الله الحقيقي وحمله. ولهذا السبب نجد أنه لم يخرج للناس سوى حرفين من حروف الدين والمعرفة.
ومعروفة هي الرواية التي تخبرنا أنه في زمن خروج القائم (منه السلام) سيُخرج القائم حروف العلم الخمسة والعشرين المتبقية ويبثها في الناس، وسوف تُكمّل تلك الحروف الخمسة والعشرون بالإضافة إلى الحرفين السابقين من حروف العلم معرفة الإنسانية بالتوحيد الحقيقي ودين الله الحقيقي. تبرز الروايات التالية هذه الحقيقة: قال الإمام الصادق (منه السلام):
«العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفا فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين، حتى يبثها سبعة وعشرين حرفا».
وروي عن آل محمد (منهم السلام):
«أن آدم (عليه السلام) مرض قبل موته أحد عشر يوما وأوصى إلى ابنه شيث (عليه السلام) وكتب وصيته ثم دفع كتاب وصيته إلى شيث وأمره أن يخفيه من قابيل وولده لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسدا منه حين خصه آدم بالعلم فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به». وعن المفضل قال: «سألت الصادق (عليه السلام) عن قوله: ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ قال التقية ﴿فَمَا ٱسْطَـٰعُوٓا۟ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَـٰعُوا۟ لَهُۥ نَقْبًا﴾، قال إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقباً. قال: وسألته عن قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ قال: رفع التقية عند الكشف فانتقم من أعداء الله».