نكث بنو إسرائيل وعدهم وتمردوا كثيراً ونقضوا عهد موسى مراراً وتكراراً، ورغم ذلك كان يغفر الله لهم في كل مرة، إلا أن نقض العهد يؤدي إلى الظلم والتنازع واختلال التوازن الذي يستوجب التصحيح. فكان يعاقبهم الله حتى يتعلموا ويتعظوا. عاقبهم تارة بالتيه في الصحراء لمدة أربعين عاماً وحرم عليهم دخول الأرض المقدسة على مدار جيل كامل، وعاقبهم تارة أخرى بتدمير الهيكل المقدس في القدس والاستعباد على يد نبوخذ نصر. وعاقبهم حتى بضياع التوراة الأصلية التي كانت لديهم وضياع آثار الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وأهمها تابوت العهد. وعاقبهم مرة أخرى بوضعهم تحت وطأة الاحتلال الروماني. وفي زمن أغسطس قيصر جاءهم المخلص الموعود عيسى المسيح (عليه السلام). ولكن رغم مجيئه إليهم، لم يؤمن به بنو إسرائيل وحاولوا قتله، وفي النهاية خانوا مخلصهم وسلموا مَلِكَهم الموعود إلى أيدي الرومان الكفرة حتى يقضوا عليه. وبسبب هذه الخيانة عزم الله على ألا يغفر لبني إسرائيل مرة أخرى أبداً ونُقض العهد الرابع إلى الأبد وانتهى عهد موسى (عليه السلام) وولِد عهد جديد.
بدأت دعوة عيسى (عليه السلام) وهو في سن الثلاثين، مباشرة بعد موت يوحنا المعمدان (عليه السلام) الذي مات وعمره ثلاثين عاماً، وكان فارق السن بينه وبين عيسى (عليه السلام) ستة أشهر فقط. وفقاً للكتاب المقدس، استمرت دعوة عيسى (عليه السلام) لمدة ثلاث سنوات، جمع خلالها تلاميذه وجاب القدس والمناطق المحيطة بها، يخطب في الناس ويصنع معجزات عظيمة. ومن بين مائة وأربعة وعشرين ألف نبي بُعثوا إلى الأرض، كان عيسى (عليه السلام) النبي صاحب العدد الأكبر من المعجزات. كان يخبر الناس بما كانوا يخزنون في منازلهم وما كانوا يأكلون. كان يشفي الأبرص والأعمى والأصم ويعيد أعضاء الجسد المبتورة. كان يمشي على الماء ويحوّل الماء إلى خمر، وكان يخلق الطير من الطين. وكانت المعجزة الأخيرة التي قام بها هي الأكثر إدهاشاً من بينهم جميعاً، حيث أعاد لعازر من الموت. كل هذه المعجزات والعجائب مسجلة في الأناجيل الكنسية. خلال هذا الوقت كله، شهد تلاميذ عيسى (عليه السلام) كل هذه المعجزات التي لا تعد ولا تحصى، وزاد عدد أتباعه من اثني عشر رجلاً إلى عشرات الآلاف من المؤمنين.
لكن لماذا لم يتوج بنو إسرائيل عيسى (عليه السلام) ملكاً لهم؟ لماذا ارتد معظم الناس؟ لماذا خانه يهوذا الاسخريوطي الصحابي المقرب له والذي كان قد عيَّنَه حارساً على بيت المال، بعد أن شهد كل هذه المعجزات؟ هل كانوا ببساطة خائفين من الموت، خائفين من الوقوف أمام الكتبة والفريسيين أو السلطات الرومانية؟ هل ربما كانوا متمسكين بالحياة الدنيا أكثر من اللازم؟ إذا كان كذلك، فلماذا اتبعوه من البداية؟ الإجابة على هذه الأسئلة معقدة، ولا شك في أنها ستترك عند الباحث المخلص عن الحق شعوراً مراً وثقيلاً للغاية.
ضع في الاعتبار كيف يسجل الكتاب المقدس واقعة إطعام عيسى (عليه السلام) لحشد من آلاف الناس بشكل إعجازي، وإتباع الآلاف له وسفرهم من كل أنحاء إسرائيل لرؤيته، حتى غير اليهود كانوا يطلبون عيسى وآمنوا به، ولكن فجأة حدث شيء جعل الجميع يعيدون النظر في أمره، وتلاشى إيمانهم به وتركوه. وحقيقة الأمر هي أن عيسى (عليه السلام) بدأ يتحدث علناً عن عقيدة سرية ضمن تعاليمه اِشْمَأزَّ منها الناس. بدأ يقول في تعاليمه أنه «خبز الحياة». ورد في الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا ما يلي:
«وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ، قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللهِ؟». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هذَا الْخُبْزَ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا. وَلكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا. لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ هذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ. لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». قَالَ هذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ».
كان قول عيسى (عليه السلام) بأنه «خبز الحياة»، ثقيلاً جداً على بني إسرائيل، حيث أدى هذا إلى أن يشك فيه الكثير من تلاميذه وأن يتخلوا عنه في النهاية:
«فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: «إِنَّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تَلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هذَا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَهذَا يُعْثِرُكُمْ؟ فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِدًا إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلًا! اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ، وَلكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. فَقَالَ: «لِهذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي». مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟» فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأَنَّ هذَا كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ».
إذن نرى هنا أن هذه العقيدة السرية التي كان عيسى (عليه السلام) يعلّمها، عقيدة تناول عيسى المسيح، هي التي جعلت الناس يتخلون عنه وينفرون منه. كما أنه من خلال الحديث عن هذه العقيدة، كشف يهوذا عن وجهه الحقيقي لأول مرة وكفر. كانت عقيدة تناول لحم ودم عيسى (عليه السلام) أيضاً في تناقض مباشر مع وصايا موسى (عليه السلام):
«وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ الْغُرَبَاءِ النَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَمًا، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ النَّفْسِ الآكِلَةِ الدَّمِ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ. لِذلِكَ قُلْتُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لاَ تَأْكُلْ نَفْسٌ مِنْكُمْ دَمًا، وَلاَ يَأْكُلِ الْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ دَمًا».
ولكن ما معنى ذلك؟ تناول لحم ودم عيسى؟ ماذا كان عيسى (عليه السلام) يطلب؟ أن يقتله الناس ويأكلونه؟ بالطبع لا، لابد أن يكون لها معنى آخر. لكن ماذا يمكن أن يكون هذا المعنى؟ إن لحم الرجل ودمه هو نسله ونطفته. في كتاب «صناعة الجنس: الجسد والجندر من الإغريق إلى فرويد»، ينقل توماس لاكوير الكلمات التالية عن القديس إيزيدور من إشبيلية والذي كان أسقفاً وعالماً إسبانياً عاش في مطلع القرن السابع:
«صلة الدم تسمى كذلك بسبب الطفل الذي يتم إنجابه من دم واحد، أي من نفس السائل المنوي للأب. لأن السائل المنوي للذكر هو رغوة الدم مثلما تظهر رغوة بيضاء على سطح الماء عند إرتطام الماء بالصخور، أو تماماً مثل النبيذ الداكن، الذي عندما يُصب في الكوب، تظهر على سطحه رغوة بيضاء».
هل كان عيسى (عليه السلام) حقاً يتحدث عن السائل المنوي حينما تكلم عن ما أراد أن يتناوله أتباعه؟ يجب أن ننظر إلى أناجيل المسيح أكثر لنتأكد من هذا الأمر. لدينا في إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع، واقعة يتحدث فيها عيسى (عليه السلام) مع امرأة سامرية:
«وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ الوَقْتُ نَحْوَ الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ ظُهْرًا. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا».
نرى هنا بوضوح أن عيسى (عليه السلام) يشير إلى ماء غير ماء الشرب العادي، سائل من نوع آخر يسميه «الماء الحي». يُعرف السائل المنوي كذلك بالماء الحي لأنه من هذا الماء تأتي الحياة ويُنجَب الأطفال ويولدون. وعندما طلبت المرأة من عيسى ذلك الماء، قال عيسى للمرأة أن تدعو زوجها وترجع، مشيراً بوضوح إلى أن زوجها لديه ذلك الماء الحي، كما لدى كل الذكور. لكن حتى هذا ليس دليلاً كافياً بمفرده، لأن الكثير من الناس سيشمئزون من هذا التفسير ويستنكرونه. ولهذا السبب نسعى لتبيان المزيد من الأدلة من الأناجيل على أن هذا هو المعنى الحقيقي لما قاله عيسى (عليه السلام) وعلّمه. إذا نظرنا إلى سفر الخروج، الإصحاح الرابع، سنرى حادثة مع موسى (عليه السلام) وزوجته وابنه:
«وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. فَقَالَتْ: «إِنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي». فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: «عَرِيسُ دَمٍ مِنْ أَجْلِ الْخِتَانِ».
في الكتاب المقدس المشروح الجديد من أكسفورد: النسخة المعيارية الجديدة المنقحة، ورد ما يلي: «الأرْجُل، كناية عن الأعضاء التناسلية».
إذن عرفنا الآن أنه في الكتاب المقدس، عندما تُذكر كلمة «رِجْل»، فإنها إشارة إلى الأعضاء التناسلية الذكرية. وإذا قرأناها في هذا السياق، يصبح كل شيء واضحاً. على سبيل المثال، ورد في سفر راعوث الإصحاح الثالث:
«وَقَالَتْ لَهَا نُعْمِي حَمَاتُهَا: «يَا بِنْتِي أَلاَ أَلْتَمِسُ لَكِ رَاحَةً لِيَكُونَ لَكِ خَيْرٌ؟ فَالآنَ أَلَيْسَ بُوعَزُ ذَا قَرَابَةٍ لَنَا، الَّذِي كُنْتِ مَعَ فَتَيَاتِهِ؟ هَا هُوَ يُذَرِّي بَيْدَرَ الشَّعِيرِ اللَّيْلَةَ. فَاغْتَسِلِي وَتَدَهَّنِي وَالْبَسِي ثِيَابَكِ وَانْزِلِي إِلَى الْبَيْدَرِ، وَلكِنْ لاَ تُعْرَفِي عِنْدَ الرَّجُلِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَمَتَى اضْطَجَعَ فَاعْلَمِي الْمَكَانَ الَّذِي يَضْطَجعُ فِيهِ، وَادْخُلِي وَاكْشِفِي نَاحِيَةَ رِجْلَيْهِ وَاضْطَجِعِي، وَهُوَ يُخْبِرُكِ بِمَا تَعْمَلِينَ». فَقَالَتْ لَهَا: «كُلَّ مَا قُلْتِ أَصْنَعُ». فَنَزَلَتْ إِلَى الْبَيْدَرِ وَعَمِلَتْ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَتْهَا بِهِ حَمَاتُهَا.
فَأَكَلَ بُوعَزُ وَشَرِبَ وَطَابَ قَلْبُهُ وَدَخَلَ لِيَضْطَجعَ فِي طَرَفِ الْعَرَمَةِ. فَدَخَلَتْ سِرًّا وَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ رِجْلَيْهِ وَاضْطَجَعَتْ. وَكَانَ عِنْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ أَنَّ الرَّجُلَ اضْطَرَبَ، وَالْتَفَتَ وَإِذَا بِامْرَأَةٍ مُضْطَجِعَةٍ عِنْدَ رِجْلَيْهِ. فَقَالَ: «مَنْ أَنْتِ؟» فَقَالَتْ: «أَنَا رَاعُوثُ أَمَتُكَ. فَابْسُطْ ذَيْلَ ثَوْبِكَ عَلَى أَمَتِكَ لأَنَّكَ وَلِيٌّ». فَقَالَ: «إِنَّكِ مُبَارَكَةٌ مِنَ الرَّبِّ يَا بِنْتِي لأَنَّكِ قَدْ أَحْسَنْتِ مَعْرُوفَكِ فِي الأَخِيرِ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِ، إِذْ لَمْ تَسْعَيْ وَرَاءَ الشُّبَّانِ، فُقَرَاءَ كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاءَ. وَالآنَ يَا بِنْتِي لاَ تَخَافِي. كُلُّ مَا تَقُولِينَ أَفْعَلُ لَكِ، لأَنَّ جَمِيعَ أَبْوَابِ شَعْبِي تَعْلَمُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ. وَالآنَ صَحِيحٌ أَنِّي وَلِيٌّ، وَلكِنْ يُوجَدُ وَلِيٌّ أَقْرَبُ مِنِّي. بِيتِي اللَّيْلَةَ، وَيَكُونُ فِي الصَّبَاحِ أَنَّهُ إِنْ قَضَى لَكِ حَقَّ الْوَلِيِّ فَحَسَنًا. لِيَقْضِ. وَإِنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَقْضِيَ لَكِ حَقَّ الْوَلِيِّ، فَأَنَا أَقْضِي لَكِ. حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ. اِضْطَجِعِي إِلَى الصَّبَاحِ». فَاضْطَجَعَتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ إِلَى الصَّبَاحِ. ثُمَّ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ الْوَاحِدُ عَلَى مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ. وَقَالَ: «لاَ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ إِلَى الْبَيْدَرِ».
إذن من الواضح أن نعمي أرسلت راعوث إلى بوعز لكي تعاشره فموياً. كان هذا هو معنى الاضطجاع عند رجليه. جاء في سفر صموئيل الثاني الإصحاح الحادي عشر:
«وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ». فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ. فأَخْبَرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: «لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلَى بَيْتِهِ». فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟» فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: «إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ».
نرى هنا بوضوح أنه عندما طلب داود من أوريا أن يذهب إلى منزله ويغسل رجليه، فإن هذا كان يعني في الواقع أن يذهب ويضطجع مع زوجته، لذا فإن «الرجلين» هي في الواقع كناية عن الأعضاء التناسلية.
وهناك دليل آخر على أن «الرجلين» في الكتاب المقدس تعني الأعضاء التناسلية الذكرية وهو موجود في سفر صموئيل الأول. ورد في النسخة الأمريكية القياسية ما يلي:
«وَجَاءَ إِلَى صِيَرِ الْغَنَمِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ. وَكَانَ هُنَاكَ كَهْفٌ فَدَخَلَ شَاوُلُ لِكَيْ يُغَطِّيَ رِجْلَيْهِ، وَدَاوُدُ وَرِجَالُهُ كَانُوا جُلُوسًا فِي مَغَابِنِ الْكَهْفِ».
أما النسخة الدولية الجديدة، فهي تترجم نفس الآية على النحو التالي:
«وَجَاءَ إِلَى صِيَرِ الْغَنَمِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ. وَكَانَ هُنَاكَ كَهْفٌ فَدَخَلَ شَاوُلُ لِكَيْ يقضي حاجته، كان دَاوُدُ وَرِجَالُهُ في الخلف في الْكَهْفِ».
الآن إذا نظرنا إلى الآيات التالية تتضح الكثير من الأسرار. جاء في إنجيل لوقا الإصحاح السابع:
«وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الْفَرِّيسِيِّ وَاتَّكَأَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ. فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا: «لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «يَا سِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ». فَقَالَ: «قُلْ، يَا مُعَلِّمُ». «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى الْوَاحِدِ خَمْسُمِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى الآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعًا. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ: «أَظُنُّ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَرِ». فَقَالَ لَهُ: «بِالصَّوَابِ حَكَمْتَ». ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: «أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلًا». ثُمَّ قَالَ لَهَا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ».
ما كان الفريسي ليشعر بالاشمئزاز وما كان لينكر نبوة عيسى (عليه السلام) لمجرد أن امرأة خاطئة قبلت قدميه، لكن بالطبع ستدخله شكوك كبيرة إذا ما قامت بغي خاطئة بمعاشرته فموياً. وبما أن «الرجلين» هي كناية عن الأعضاء التناسلية، فإن هذه المرأة قامت بمعاشرة عيسى فموياً، ومن خلال تناول السائل المنوي غُفرت كل ذنوبها، وهذا ما صدم الفريسي بطبيعة الحال عندما دخل وشاهد ذلك وارتد على إثرها.
وفي رواية غنوصية غريبة أخرى يصنع عيسى المسيح معجزة أمام أقرب تلاميذه، مريم المجدلية. يسجل إبيفانيوس السلاميسي أن النص الغنوصي «الأسئلة الكبرى لمريم» كان يحتوي على مقطع أخذ فيه عيسى (عليه السلام) مريم المجدلية إلى قمة جبل، وأخرج امرأة من جنبه وجامعها. وعند القذف، شرب عيسى السائل المنوي الخاص به وقال لمريم، «هكذا يجب أن نفعل لنحيا». عندما سمعت مريم ذلك، أغمي عليها على الفور، فساعدها عيسى على النهوض وقال لها، «يا قليلة الإيمان، لماذا شككت؟».
وكذلك نعلم في الإسلام أيضاً أن السوائل التي كانت تخرج من جسد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مُطهِرة وتمحو الذنوب. ولدينا هذه الواقعة الشهيرة التي تواتر ذكرها في كتب الحديث: قال ابن الأثير في الغابة: وروى حجاج بن محمد، عن إبن جريج، عن حكيمة بنت أميمة، عن أمها أميمة بنت رقيقة، قالت:
«كان للنبي (ص) قدح من عيدان يبول فيه يضعه تحت السرير، فجاءت امرأة اسمها بركة فشربته، فطلبه فلم يجده، فقيل: شربته بركة، فقال: لقد احتظرت من النار بحظار»،
أي تطهرت بواسطة سوائل جسدي.
السائل المنوي أنظف من البول، وإذا كان بول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مُطهِّر فلابد لنا من قبول طهارة السائل المنوي أيضاً. وإذا قبل المرء أن إبليس نجس وقابيل نجس وأولادهم أنجاس، فإن مُنْيهم أيضاً نجسة وتُنجِّس. ولكل شيء نقيضه، فإذا كان هناك أناس أنجاس فلابد أن يكون هناك أناس أطهار. وإن كان هناك سائل منوي نجس، فلابد من وجود سائل منوي طاهر، وإذا كان هناك سائل منوي يُنجِّس، فلابد من وجود سائل منوي يُطهِّر.
كل هذا يمهد الطريق لمعجزة عيسى (عليه السلام) الأخيرة في الإنجيل وهي قيامة لعازر. جاء في سفر يوحنا الإصحاح الحادي عشر:
موت لعازر
«وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضًا وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ، الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضًا، هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا. فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ». وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَيْضًا». قَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ: «يَا مُعَلِّمُ، الآنَ كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، وَتَذْهَبُ أَيْضًا إِلَى هُنَاكَ». أَجَابَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هذَا الْعَالَمِ، وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ». قَالَ هذَا وَبَعْدَ ذلِكَ قَالَ لَهُمْ: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ!». فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتَّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ!».
يسوع يعزي الأختين
«فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ. وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي! لكِنِّي الآنَ أَيْضًا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللهِ يُعْطِيكَ اللهُ إِيَّاهُ».
قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهذَا؟» قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ». وَلَمَّا قَالَتْ هذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرًّا، قَائِلَةً: «الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ». أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعًا وَجَاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ، بَلْ كَانَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لاَقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا. ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي الْبَيْتِ يُعَزُّونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلًا وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: «إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ». فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!». فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ، وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَانْظُرْ». بَكَى يَسُوعُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: «انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!». وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: «أَلَمْ يَقْدِرْ هذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هذَا أَيْضًا لاَ يَمُوتُ؟».
إقامة لعازر من الموت
«فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ، وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ!». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللهِ؟». فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعًا، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي». وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!» فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيل. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ».
في نص غنوصي يسمى «إنجيل مرقس السري» نجد معلومات إضافية حول هذه الحادثة:
«ثم جاؤوا إلى بيت عنيا، فحضرت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدت أمامه قائلة: يا ابن داود ارحمني. فانتهرها التلاميذ. ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دُفن فيه. ولدى اقترابه نَدَت من داخل القبر صيحة عظيمة. فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر ودخل لفوره إلى حيث كان الفتى فمدّ ذراعه إليه وأقامه ممسكاً بيده. ولما رآه الفتى أحبّه وتوسّل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما من القبر توجهوا إلى بيت الفتى لأنه كان غنياً. وبعد ستة أيام لقّنه يسوع ما يتوجّب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتى وهو يرتدي ثوباً من الكتان على جسده العاري وبقي معه في تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من الأردن».
المعنى الضمني هنا هو أن عيسى (عليه السلام)، بعد أن أحيا لعازر من الموت، أدخل لعازر في أسرار الدين وملأه بالروح. وبعد أن شهد التلاميذ هذه المعجزة العظيمة، توسلوا إلى عيسى (عليه السلام) أن يعلمهم ويملأهم بالروح القدس أيضاً، حتى يتمكنوا هم أيضاً من أداء المآثر التي قام بها عيسى (عليه السلام). ومع ذلك، فإن إيمانهم كان متزعزعاً وغير مكتمل، وحتى القرآن الكريم يشهد على ذلك في قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
وفي الإنجيل يوبخهم عيسى (عليه السلام) عدة مرات ويتهمهم بضعف الإيمان ويقول إنهم سينكرونه. ما الذي يجعل التلاميذ ضعفاء الإيمان بعد رؤية كل هذه المعجزات؟ هل المسألة ببساطة هي أن عيسى (عليه السلام) اختار أشخاص ضعفاء الإيمان ليكونوا تلاميذه؟ أم كان هناك سبباً آخر؟
يروي القرآن الكريم الحادثة التي توسل فيها التلاميذ للمسيح (عليه السلام) أن ينزل عليهم ذلك العشاء الأخير ليكون لهم عيداً:
﴿إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَـٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞ قَالُوا۟ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ ۞ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ ۖ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ۞ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾.
من الواضح أن الحواريين طلبوا طعاماً، لكنه ليس طعاماً عادياً إنما طعاماً من السماء. أمرهم عيسى (عليه السلام) أن يخافوا الله لأنهم إذا طلبوا شيئاً كهذا وكفروا بعدها، يقول الله أنه سيعذبهم عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين. لذا من الواضح أن الطعام المشار إليه هنا قد يزرع الشك في قلوب الحواريين، والله كان يعلم ذلك وعيسى (عليه السلام) كان يعلم ذلك. أنزل الله عليهم المائدة، وهذه الواقعة معروفة في الإنجيل بإسم «العشاء الأخير»، وقد سُميت السورة الخامسة في القرآن الكريم بـ «المائدة» إشارة إلى «العشاء الأخير». هذا «العشاء الأخير» هو الذي جعل يهوذا يكفر ويرتد كلياً. وهذا «العشاء الأخير» هو ما جعل الحواريين الآخرين يهتزون ويشكون بعيسى (عليه السلام) وينكرونه.
لبى عيسى (عليه السلام) مطلبهم، وأقيم العشاء الأخير. نريد أولاً أن نراجع ما حدث في العشاء الأخير. من الأمور التي وقعت أن عيسى (عليه السلام) غسل أرجل التلاميذ. وعندما ذهب عيسى ليغسل أرجلهم، اعترضوا بشدة في البداية. في ضوء المعنى الموضح سابقًا لـ «غسل الرجلين»، يختلف المعنى والحدث كثيراً:
«يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، قامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ».
إذن، في العشاء الأخير تشارك عيسى (عليه السلام) وحوارييه في غسل أرجل بعضهم البعض حتى يتطهر الحواريون. تذكروا أن عيسى (عليه السلام) قال لهم أن يأكلوا من لحمه ويشربوا من دمه. ليس من المنطقي أن يكون الخبز هو جسد المسيح والخمر هو دمه، ولكن المعنى يستقيم عندما يكون لحم الرجل هو نطفته التي منها تأتي ذريته. وكان أرسطو (عليه السلام) قد تحدث وكتب عن السائل المنوي وأجزاء الروح، وكان يؤمن أن السائل المنوي يحتوي على أجزاء صغيرة من روح الرجل، وهذا الجزء من روح الرجل ينتقل من إنسان إلى إنسان آخر من خلال السائل المنوي، وقد قال آل البيت (منهم السلام) أنهم أنوار في أصلاب الرجال مما يعني أن نور الرجل أو روحه مرتبطة بالسائل المنوي الخاص به.
عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«خلقت أنا وعلي من نور واحد قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم نزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ففي النبوة وفي علي الخلافة».
وهذه واحدة من الأمور الشديدة على العرب، ومن الحقائق المخفية والتي أبقاها الله سراً، وأحد الأسرار التي لم يستطع الناس تحملها. قال أبو جعفر (منه السلام): «يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد على العرب شديد».
وكان هذا هو الاتحاد المقدس الذي وقع بين عيسى (عليه السلام) وتلاميذه والذي أحدث تحولاً فيهم. وإثر ذلك امتلأوا بالروح القدس وباتوا قادرين على صنع العديد من المعجزات من خلال عيسى (عليه السلام) الذي أصبح الآن بداخلهم، ولكن كان هذا فقط بعد زوال شكهم. وهذا ما دفعهم إلى الهروب عند إلقاء القبض على عيسى (عليه السلام)، لأنهم ظنوا أن اعتقاله كان عقاباً على هذا الطقس الغريب الذي قاموا به. وكان هذا هو أيضاً سبب خيانة يهوذا، حيث لم يستطع تحمل هذه الحقيقة. وقد روى آل البيت (منهم السلام) أن عيسى (عليه السلام) حدث أصحابه بأمور ثقيلة صاروا أعداءاً مبينين بعدما سمعوها. في حديث ابن أبي يعفور:
«...لأن عيسى (عليه السلام) حدث قومه بحديث فلم يحتملوه عنه، فخرجوا عليه».
وهذه هي القصة الحقيقية وراء سبب كفر أتباع عيسى به، وسبب خيانة صاحبه يهوذا، وسبب صلبه على يد اليهود. لأنهم لم يستطيعوا تحمل تعاليمه الخاصة بتناول السائل المنوي الذي عَلَّم عيسى (عليه السلام) أنه يحتوي على روحه.
نفخ الله في آدم (عليه السلام) من روحه، وكان هذا الروح هو الروح القدس. وكان ينتقل في صلب الرجل من خليفة إلى خليفة ومن حجة إلى حجة في نطفة ذلك الرجل. عندما قالت مريم، أم عيسى (عليه السلام) أنها حملت من الروح القدس، فإنها كانت تقصد بذلك أنها حملت من رسول من الله أو حجة الله، وحملت الروح القدس في بطنها، وكان هذا معروفاً في ذلك الوقت. يذكر إنجيل فيليب ما يلي:
«قال البعض، «إن مريم حبلت من الروح القدس» إنهم مخطئون. إنهم لا يعلمون ماذا يقولون. فمنذ متى تحبل المرأة من امرأة؟ إن مريم هي العذراء التي لا قوة تدنسها، انها لعنة عظيمة على العبرانيين، الذين هم الرسل والحواريون. هذه العذراء التي لا قوة تدنسها [...]، القوى تدنس نفسها. والسيد لن يقول «أبي الذي في السماء» (متى ١٦: ١٧)،
إلا إذا كان له أب آخر، وإلا لقال « أبي» ببساطة».
حتى في القرآن الكريم ورد أن الروح القدس قد تمثل لمريم بشراً سوياً: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۞ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ۞ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ۞ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ۞ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ۞ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾.
إذن الروح القدس تجري في صلب خليفة الله، وهكذا يتضح أن العشاء الأخير كان في الواقع طقساً للتطهير وانتقال الروح القدس. ذلك لأنه في ذلك الوقت، كان نسل قابيل قد اختلط بنسل آدم اختلاطاً شديداً بحيث كانت هذه الطريقة بمثابة وسيلة لتطهير الجسد من ظلمة الشيطان، وإعادة الجسد إلى النور والنقاء. كانت في جوهرها طريقة جديدة لفصل ظلمة الشيطان وقابيل وأولادهما عن أجسادنا. في العهد الأول، نُفي قابيل بعيداً عن بني آدم. وبحلول زمن العهد الثاني، كان قد بلغ نسل قابيل عدداً كبيراً جداً، بحيث أصبحوا يسيطرون على كل جوانب المجتمع ويحاولون شن الحروب على أبناء آدم وقتلهم، فأبادهم الله وطهر الأرض بالطوفان. وبحلول زمن العهد الثالث، نجا أبناء قابيل وأمر الله بالفصل بين أبناء قابيل وأبناء آدم وأعطاهم الختان كعلامة. ومع ذلك استمر أبناء قابيل في التسلل وتبني التقاليد اليهودية والزواج من أبناء آدم. فجاء عيسى بطريقة جديدة لتطهير الجسد من الظلمة، من خلال استهلاك النور. فالإنسان نتاج ما يأكله. قال عيسى (عليه السلام):
«طوبى للأسد الذي يأكله الإنسان، فيصير الأسد إنساناً. وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد، فيصير الأسد بشراً!».
هذا الطقس والعلم السري الذي أصبحتم تعرفونه الآن هو أمر يعرفه من هم في السلطة في الكنيسة الكاثوليكية، وهو أيضاً أحد الأسباب التي استخدمها أساقفة وكرادلة الكنيسة الكاثوليكية كمبرر للتحرش المستمر بالأطفال داخل الكنيسة، مرفق بعض اللوحات الكاثوليكية للعشاء الأخير التي تصور عيسى (عليه السلام) وأحد تلاميذه والطقس بوضوح أمام من له عينان يبصر بهما.
كانت أحكام عهد موسى (عليه السلام) هي نفسها أحكام عهد عيسى (عليه السلام) مع بعض التغييرات، حيث قال عيسى (عليه السلام) في إنجيل متى:
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ».
أجرى عيسى (عليه السلام) تغييرات طفيفة أخرى على الأحكام خلال حياته، وكان من ضمن هذه التغييرات تحريم الطلاق إلا عند الضرورة القصوى. كما حرم تعدد الزوجات وجعل زواج أي رجل بزوجة ثانية معادلاً للزنى.
الطلاق
«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاكَ. وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». قَالُوا لَهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَق فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي».
قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ».
ورفع الله عيسى (عليه السلام) إليه وانتقل العهد من بني إسحاق إلى بني إسماعيل (عليهما السلام) بعد أن بشرهم عيسى (عليه السلام) برسول عربي يأتي إليهم اسمه أحمد كما هو مذكور في القرآن الكريم:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
وهكذا انتقلت الوصية الإلهية والعهد الإلهي من بني إسرائيل إلى العرب عبر سلسلة طويلة من الأنبياء، منهم النبي ماني وصولاً إلى أبي طالب، أبو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام). وكان أبو طالب (عليه السلام) آخر أوصياء عيسى المسيح قبل ظهور خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). روي أن الإمام موسى الكاظم (منه السلام) سُئل عن أبي طالب ورسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجاب (منه السلام):
«أقر بالنبي وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه».
والعذاب الذي نزل على بني إسرائيل لنقضهم عهد موسى هو تدمير الهيكل الثاني في القدس على يد الرومان، وطُرد بنو إسرائيل من أرض الميعاد التي قادهم موسى (عليه السلام) إليها وتشتتوا في جميع أنحاء الأرض دون دولة يهودية لما يقرب من ألفي عام حتى دخلوها مرة أخرى بمساعدة الرومان. وكان هذا تحققاً لكلمات الله عندما قال في القرآن الكريم:
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾.
وكانت علامة العهد الجديد هي المناولة المقدسة والكأس، وكانت الأرض الموعودة في هذا العهد هي نفس التي كانت في عهد موسى (عليه السلام)، إلا أنها انتقلت من بني إسرائيل، الذين تم طردهم ونفيهم، إلى بني إسماعيل، العرب، الذين سكنوا بعد ذلك جميع الأراضي التي كانت موعودة لموسى (عليه السلام). كان التعرف على أتباع العهد الجديد يتم من خلال هذه الممارسة بين بعضهم البعض والتي لا يستطيع أي ابن لقابيل تحملها. كانت ثقيلة جداً وكانت علامة العهد. واستمر أتباع عيسى (عليه السلام) في ممارسة هذا الأمر لعدة قرون بعد ذلك، بدءاً من النبي ماني وأتباعه وحتى العهد المحمدي.
من المؤكد أن هذه القراءة كانت ثقيلة على الكثير منكم، لكن عيسى (عليه السلام) حذرنا من أن هذا سيكون الحال. ورد في إنجيل توما:
«هذه هي الكلمات الخفيَّة التي نطق بها يسوع الحيُّ ودوَّنها يهوذا توما التوأم. وقال: من يكتشف تأويل هذه الكلمات لن يذوق الموت. قال يسوع: مَنْ يطلب فلا يستنكف عن الطلب إلى أن يجد. وحين يجد سوف يضطرب. وعندما يضطرب سوف يَعْجَب ويسود على الكل».
لقد كشف الإمام أحمد الحسن (منه السلام) عن هذه الحقائق المرة والثقيلة لمساعدتنا على تعزيز فهمنا لتاريخ التطور الروحي والفكري للبشرية من عهد موسى إلى عهد عيسى (عليهما السلام). كانت هناك معتقدات وعادات وممارسات منتشرة، من الأديان والثقافات الشرقية إلى الغربية، فيما يتعلق بالفوائد الروحية والطبية لشرب بول البقر (على سبيل المثال في الهندوسية والإسلام) وبول الإبل (على سبيل المثال في الإسلام)، حيث أننا بحاجة إلى فهم أصول هذه الممارسات والهدف منها وحتى تحريفاتها بشكل أفضل.
ورد مفهوم تناول البول للاستشفاء في الروايات الإسلامية السائدة، حيث توضح الرواية التالية في صحيح البخاري هذه النقطة: عن أنس بن مالك قال:
«قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ...».
يقول الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في باب جواز شرب أبوال الإبل والبقر والغنم ولعابها والاستشفاء بأبوالها وبألبانها:
«عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه، وكذلك أبوال الإبل والغنم». وجاء في نفس الباب، عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: «أبوال الإبل خير من ألبانها، ويجعل الله الشفاء في ألبانها».
وأصدر علي السيستاني فتوى بجواز شرب أبوال الإبل والغنم والبقر.
ونحن لسنا بصدد مناقشة موضوع شرب بول الحيوان من عدمه، لكننا نقول، ألا يعد بول الرسول أطهر من بول الحيوان بالنسبة لمن يتبنون هذا المعتقد ويجيزون شرب بول الحيوان؟
وحتى اليوم تعد الفوائد الطبية للسائل المنوي هي أيضاً موضوع بحث طبي وثقافة شعبية. ويجدر بنا الإشارة إلى أن الطقس الذي دعا عيسى (عليه السلام) تلاميذه الذكور إليه في العشاء الأخير كان ممارسة غير جنسية، بل كان الغرض منه هو تعزيز الشفاء الروحي والفهم والتوحيد والتطهير من الظلمة، وعلى أية حال، فإن مقاطع تناول «الماء الحي» هذه تقدم صورة مختلفة لعيسى (عليه السلام) عن تلك التي ترسمها الكنيسة بشكل عام.
علاوة على ذلك، كانت هناك رسالة أعمق كان عيسى (عليه السلام) يحاول إيصالها ليس فقط إلى تلاميذه، بل إلى الأجيال المستقبلية في سعيها إلى الله.
فعيسى (عليه السلام) كان يُعرف بكونه معالج الجسد، ولكن الأهم من ذلك، كان يُعرف بكونه معالج القلب. فقد أخَذَنا من ختان الجسد (في العهد الإبراهيمي) إلى ختان القلب وتنقية القلب والروح عن طريق استهلاك النور الموجود في السائل المنوي. يقول الكتاب المقدس:
«اِخْتَتِنُوا لِلرَّبِّ وَانْزِعُوا غُرَلَ قُلُوبِكُمْ يَا رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، لِئَلاَّ يَخْرُجَ كَنَارٍ غَيْظِي».
وكما ذكرنا سابقاً، جاء عيسى (عليه السلام) ليكمل شريعة موسى (عليه السلام)، خاصة فيما يلي:
«فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ، وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ».
«وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا».
نترك للقارئ توضيحاً مهماً عند التفكير في هذه الحقائق الثقيلة، ففي ضوء ما بينّه والدي الإمام أحمد الحسن (منه السلام)، نكشف نحن اليوم عن هذه الحقائق لتقديم فهماً أفضل لتاريخ البشرية الحقيقي والسياق والظروف المحيطة بانتقال البشرية من العهد الرابع إلى الخامس. هذه الحقائق توضح كيف كانت تعاليم عيسى (عليه السلام) تستخدم وكيف كان يساء استغلالها على مدار الألفي عام الماضيين. على سبيل المثال، ستساعدنا هذه الحقائق على فهم ظاهرة الاعتداء الجنسي على الأطفال المتفشية في الكنيسة الكاثوليكية، والسبب وراء عزوبية رجال الدين، ومحو خلفاء عيسى الحقيقيين.
وسيتضح هذا الأمر في الأبواب اللاحقة، خاصة عندما نتعرف أكثر على دعوة المسيح (عليه السلام) والسنوات الضائعة بعد واقعة الصلب. إن الإمام أحمد الحسن (منه السلام) لا يدعو البشرية قطعاً إلى هذه الممارسات، وبعد ألفي عام من الغموض الذي أحاط بحياة عيسى (عليه السلام)، حان الوقت لأن يتذوق العالم الحقيقة المُرّة. قال الإمام علي (منه السلام):
«إن الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ». فهنيئاً لكم إذا وجدتم ما قرأتم ثقيلاً وإن إضطربتم، لأنكم وجدتم الحقيقة.