إن كل قرية أو بلدة أو مدينة أو ولاية أو دولة أو مؤسسة أو شركة أو منظمة أو جمعية أو حركة أو ثورة أو جماعة أو مجتمع بحاجة إلى قائد وإلا فسيكون محكوماً عليها بالفشل، يتبادر إلى الذهن مثال حديث يتعلق بالربيع العربي في عام ٢٠١١، كنت شاباً وكنت في الصفوف الأمامية للثورة المصرية وخاطرت بحياتي للإطاحة بالديكتاتور المصري محمد حسني مبارك، خيمت في ميدان التحرير، وتعرضت للهجوم من قبل عملاء الحكومة وقوات الشرطة المصرية، وتفاديت الرصاص وخضت معارك مميتة، وتم القبض علي وتعذيبي، وفي النهاية انتصرنا، انتصر الشعب المصري وغيرت قوة الشعب التاريخ وأُجبر الفرعون القديم على الرحيل، ومثلما وقع في قصة موسى، لو أن ذلك الفرعون القديم حسني مبارك قد أُصيب بالضربات العشر ما كان ليتخلى عن عرشه، لكنه لم تكن لديه أي فرصة أمام قوة الشعب وإرادته، ومع ذلك عندما انتهى كل شيء وانقشع الغبار وهدأت أصوات الهتاف والضحك والفرح، أصبحت الثورة التي أطاحت بفرعون بلا قائد مثل موسى، ومع عدم وجود قائد يتٌبع انتهى الأمر بسرقة جماعة الإخوان المسلمين الثورة المصرية، وهم منظمة إسلامية خبيثة عارضت الحكومة المصرية لفترة طويلة، ولم يبق أمام الناس سوى التصويت لمرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي أو لمرشح فلول النظام السابق أحمد شفيق.
وبدأت حماسة التغيير تخمد، ووصل مرسي إلى السلطة، وفُتحت لمصر صفحة جديدة أسوأ من الصفحة التي سبقتها، وكان هذا بالفعل تحققاً لنبوءة النبي محمد (ص) التي تقول: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه2"، وبالفعل كان الذي بعده شر منه، عندما قاد عبد الفتاح السيسي، القائد العسكري، انقلاباً على الدكتاتور محمد مرسي ووصل إلى السلطة في عام ٢٠١٤، ولا يزال منذ ذلك الحين يقود مصر نحو الفوضى والظلام، ولا يزال المصريون يقولون حتى يومنا هذا، يا ليتنا كان لدينا قائداً للثورة، لقد كان هذا هو خطأنا، كانت الجموع التي تتحرك دون قائد مثل جسد يركض بلا رأس، وبدون القائد الكفؤ يضطر الناس إلى الاختيار بين قادة غير أكفاء، وسمة أي أمة ناجحة حقاً هي أن يقودها أفضل أبناء شعبها، ولكن كيف يمكن العثور على من هو الأصلح للقيادة؟ هل يستطيع الناس بالفعل تحديد من هو الأصلح للقيادة؟
لقد رأينا أن اختيار الشعب قد أدى إلى ظهور بعض من أسوأ الطغاة في العالم، مثل بينيتو موسوليني وأدولف هتلر، وبالنسبة لمن يؤمن بالله، وخاصة إله اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن اختيار الناس ليس له أي قيمة عندما يتعلق الأمر بالقائد، بل إنه في الواقع مرفوض تماماً.
في الكتاب المقدس العبري، غضب الله على بني إسرائيل واعتبر أنهم رفضوه عندما قرروا اختيار قائد لأنفسهم، "فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له: "هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكا ًيقضي لنا كسائر الشعوب". فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا: "أعطنا ملكاً يقضي لنا". وصلى صموئيل إلى الرب. فقال الرب لصموئيل: "اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم3".
وفي الإنجيل أيضاً يتبين أن الناس ليس لديهم القدرة على أن يقوموا بالإختيار الصحيح لأنفسهم، لأنهم عندما خُيّروا بين مخلصهم وبين مجرم اختاروا المجرم على ملكهم المسيح، "وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: "مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يسوع الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟" وَلكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يسوع4".
وكذلك ورد في القرآن الكريم: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ5"، وقال الإمام علي (ع): "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه6"، ومن هنا نرى أن طريق الحق والصلاح لا تتبعه الأغلبية، وحكم الجمهور أو الغوغاء كما قال سقراط (ع) سيؤدي دائماً إلى الطغيان. فمثلما قال سقراط: "فإذا كثرت هذه الفئة الخبيثة وأتباعها، وأدركوا حجم قوتهم، عاونهم افتتان الناس بهم، واختاروا من بينهم من هو في نفسه الأكثر طغياناً، ومنه يجعلون طاغيتهم7" إذن القائد بالنسبة للمؤمنين وبالنسبة للحركة الصالحة التي تبتغي مرضاة الله لا ينبغي أن يختاره الشعب بل يختاره الله نفسه وينصبه، فالناس لا يحكمون إلا بالظاهر، والله هو الذي يقدر على أن يختار القادة بحسب بواطنهم أو قلوبهم، "فقال الرب لصموئيل: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته، لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب8".
إن القائد الذي يتم اختياره بما يكمن في قلبه وليس ما يخرج من فمه هو القائد الذي يجسد كل الصفات المطلوبة في القائد الصالح؛ الصدق والنزاهة والشعور بالأخرين، القائد الذي يختاره الله له فوائد أخرى أيضاً، فالقائد الذي اختاره الله واعترف شعبه بأنه منصب من الله قادر على توحيد شعبه حقاً، لأن كل من يجرؤ على معارضته يعارض الله عز وجل، ونظراً للسلطة الهائلة التي يمتلكها هذا القائد فإن هناك خطورة في أن يتمكن شخص غير منصب من الله من الصعود إلى مثل هذا المنصب، ولهذا السبب لا بد أن يكون قد وضع الله طريقة لتنصيب ذلك الشخص بوضوح، وبالفعل هناك طريقة للتعرّف والتأكد من هوية ذلك الشخص المنصب من الله.
- الوصية: في البداية كان الله هو الذي نصّب آدم، وقد ذكر ذلك بوضوح شديد في القرآن: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً9"، بيّن الله أنه هو الذي يختار القائد كما أنه جعل إختياره واضحاً، وكان على الملائكة أن يسجدوا أو يطيعوا آدم بعد ذلك، وبعد تنصيب آدم (ع)، تعامل الله مع البشر من خلال خليفته أو رسوله المنصب إلهياً، بدءاً بآدم (ع). وتوضح الروايات أن آدم (ع) ذكر في وصيته أسماء خلفائه وصولاً إلى زمن نوح (ع)، وهكذا بلغ آدم (ع) البشر بمشيئة الله تعالى وبأسماء كل من الحكام المنصبين إلهياً، وعن أبي عبد الله (ع) قال: "إن قابيل أتى هبة الله عليه السلام فقال: إن أبي قد أعطاك العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك وأحق به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب علي فأثرك بذلك العلم علي، وإنك والله إن ذكرت شيئا مما عندك من العلم الذي ورثك أبوك لتتكبر به علي وتفتخر علي لأقتلنك كما قتلت أخاك، واستخفى هبة الله بما عنده من العلم لينقضي دولة قابيل، ولذلك يسعنا في قومنا التقية، لأن لنا في ابن آدم أسوة، قال: فحدث هبة الله ولده بالميثاق سراً فجرت والله السنة بالوصية من هبة الله في ولده يتوارثونها عالم بعد عالم، فكانوا يفتحون الوصية كل سنة يوما فيحدثون أن أباهم قد بشرهم بنوح عليه السلام10" إذن نصّب الله آدم (ع) وقد بلغ آدم (ع) الناس بتنصيب خلفائه من شيث إلى نوح (ع) وذلك من خلال كتابة أسمائهم في وصيته. وعلى هذا النحو نجد الأنبياء والرسل والأشخاص المنصبين إلهياً في الكتاب المقدس العبري والأناجيل والقرآن والأحاديث ينّصبون دائماً خلفاءهم في وصياتهم. فوجدنا موسى (ع) في وصيته الأخيرة يُنصِّب يوشع بن نون (ع) ويبشر بعيسى (ع)، ووجدنا أن عيسى(ع) قد نُصب على ألسنة أنبياء مثل إشعياء (ع) ويوحنا المعمدان (ع) ونجد عيسى (ع) أيضاً ينصب في وصيته خليفته سمعان بطرس (ع). فقال عيسى لسمعان بطرس: "وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ11"، نجد عيسى (ع) يبشر بمجيء محمد (ص) المعزي الثاني الموعود أو البارقليط، "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ12".
وقد أملى النبي محمد (ص) بدوره وصيته على الإمام علي (ع) قبل أن يغادر الدنيا وهو على فراش الموت، وقد أعطى فيها وعداً إلهياً وذكر أن من تمسك بها لن يضل أبداً، "لما حضر رسول الله (ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي (ص): هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده! فقال عمر: إن رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله13" وبعد ذلك ببضع ليالٍ، في ليلة وفاته قال النبي "يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة. فأملا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم إثنا عشر مهديا، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماما سماك الله تعالى في سمائه عليا المرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي: فمن ثبتها لقيتني غدا، ومن طلقتها فأنا برئ منها، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي. فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد عليهم السلام. فذلك اثنا عشر إماما، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديا، (فإذا حضرته الوفاة) فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كإسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين14".
إذن ها هو الأمر، المنهج المحفوظ كلياً لتنصيب القائد المُنصَّب إلهياً، وذلك من خلال النص على اسمه في وصية الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، فإذا لم يكن لدى القائد ما يثبت أن اسمه قد ذكر من قبل على لسان نبي أو رسول أو إمام منصب من الله، فلا يمكن أن يختاره الناس كقائد، لأنه ببساطة لم ينصبه الله، هذا هو أول شرط لا بد أن يستوفيه، فكل القادة المنصبين من الله قد ذكرهم الله على ألسنة أسلافهم.
- العلم: المعيار الثاني لتحديد القائد المنصب من الله هو أن يكون لديه علم إلهي، علم لا يملكه غيره، أي وهبه الله العلم والحكمة. أُمر آدم (ع) بعد تنصيبه من قبل الله بأن يُنبئ الملائكة بأسمائهم وأن يُسمي كل شيء في عالم الخلق، "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ15" وجاء في التوراة "فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية16". إذن يتضح أن الشخص المنصب من الله يؤتى علماً إلهياً ويعلم ما لا يعلمه أحداً غيره. وُسئل أبو عبد الله (ع): "بما يعرف صاحب هذا الأمر؟ قال: بالسكينة والوقار والعلم والوصية؟17" أما نوع المعرفة التي يمتلكها هذا الشخص المنصب إلهياً لا يجب بالضرورة أن تكون معرفة بالعلوم الدنيوية، على سبيل المثال، لا يُفترض أن يجيد كل المهن فيكون مثلاً أفضل عالم أحياء، وأفضل فيزيائي، وأفضل مهندس معماري، بل العلم يكون علماً بالدين وعلماً بالغيب، أي علماً روحياً. قال الامام علي (ع): "أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماوات فإني أعرف بها من طرق الأرض18" فكان الإمام علي (ع) يقول هنا أنه أكثر تبحراً في العلوم الروحية من العلوم الدنيوية المادية. تشمل العلوم الروحية معرفة شريعة الله وأحكامه وعلوم الأنبياء والمرسلين والملائكة؛ وكذلك معرفة الأرواح، الصالح منها والطالح، الضعيف والقوي، من على حق ومن على باطل، من المذنب ومن البريء، من المناسب لعمل ما ومن ليس مناسب، ومن يؤمن ومن يبطن الكفر، وقد استطاع عيسى (ع) أن يبرهن على هذا النوع من المعرفة "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ19" وعلى الرغم من أنهم أعلنوا الإيمان، إلا أن عيسى كان يعلم ما كان في قلوبهم. كان النبيان داود وسليمان (ع) يحكمان بعلمهما الإلهي ويقضيان به بين الناس، وهكذا يحكم القائم وذلك من خلال معرفته الإلهية التي يحصلها من خلال الروح القدس، عن عمار الساباطي قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بما تحكمون إذا حكمتم؟ قال: بحكم الله وحكم داود فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا، تلقانا به روح القدس20". وتنص روايات أخرى على أن القائم يقضي دون أن يسأل بينة أو أدلة في القضايا، بل يحكم ويقضي بما يضع الله في قلبه من علم، فالعلم الذي يصاحب صاحب الوصية هو علم إلهي، علم يسمح للفرد المنصب إلهيًا أن يحكم بين الناس بالعدل ويضع الأشخاص المناسبين في المناصب المناسبة مثلما يفعل الملك الفيلسوف في جمهورية أفلاطون.
- الراية: المعيار الثالث الذي يمكن من خلاله أن يطمئن الفرد إلى أن الشخص منصب إلهياً حقاً، بعد سماعه بأنه قد احتج بذكر اسمه في وصية نبي أو رسول أو إمام سابق، والتأكد من أن هذا الشخص حكيم بالفعل ويحمل علماً لا مثيل له، هو الراية التي يرفعها، فكل قائد أو حاكم أو ملك يرفع راية، كل بيت نبلاء له راية، كل فريق رياضي أو منظمة أو شركة لها علامة أو راية أو شعار يرفعونه، وكذا الخليفة المنصب، رايته وشعاره هو "البيعة لله". وهذا يعني أنه يدعو إلى مبدأ حاكمية الله، مفهوم أن الله وحده هو الذي يستطيع أن ينصب القائد، الله وحده هو الذي له السلطة والقدرة على اختيار الحاكم وكل نبي أو رسول أو إمام من الله بُعث كحاكم أو ملك "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ21". وبالفعل، عندما ينظر المرء في التوراة والإنجيل والقرآن، نرى بوضوح أن الله ينصب الحكام دائماً، وقد حل غضبه على البشر عندما رفضوا طاعة الحاكم واختاروا لأنفسهم حكامهم وأئمتهم.
نصب الله آدم وأعطاه سلطاناً على الأرض، ونصّب نوحاً وأعطاه الأرض كلها، ونصّب الله إبراهيم وأعطاه أرضاً ليحكمها، ونصّب الله موسى وجعله يحرر قومه من قبضة القائد الباطل فرعون وقادهم إلى أرض الميعاد، جعل الله موسى وهارون ويوشع والقضاة الذين خلفوهم حكاماً على بني إسرائيل. وقد نصَّب الله صموئيل وداود وسليمان وعيسى على بني إسرائيل وأرسل عيسى ملكاً واجب طاعته، لكن بدلاً من ذلك اختار الشعب أن يصلبوه ورفضوا ملكه عليهم، وقد نصب الله محمداً والأئمة حكاماً على هذه الأمة الإسلامية، ومع ذلك قتلهم المسلمون وكفروا بهم، واتخذوا أبا بكر وعمر وعثمان والأمويين والعباسيين حكاماً وملوكاً، فالرسول أو القائد المنصب من الله يعيد الناس دائماً إلى الوصية وإلى المعنى الحقيقي للإسلام، أو التسليم، التسليم للقائد أو الحاكم المنصب إلهياً مثلما سجدت الملائكة وسلمت لآدم.
يصبح الحاكم أو القائد المنصب من الله بوصلة وميزاناً يعرف به الناس من الصالح ومن الطالح، من الملاك ومن الشيطان، فكل من يسجد ويطيع ويتخذ القائد المنصب إلهياً إماماً فهو كالملائكة التي قبلت تنصيب آدم؛ وكل من يرفض القائد المنصب من الله، عن بغض وليس عن جهل، فهو مثل الشيطان الذي رفض وحسب نفسه أفضل، فالخلاصة أنه إذا جاء رجل واحتج بالوصية وأظهر العلم ودعا إلى حاكمية الله، فهو صادق. أما إذا جاء رجل ودعا إلى نظام حكم آخر لأمة المؤمنين، فإن دعا مثلاً إلى نظام يسمح للناس باختيار أو تنصيب قائدهم بأي شكل من الأشكال، سواء كان ديمقراطياً أو شيوعياً أو نظاماً ملكياً أو أي نظام آخر غير ذلك، فهذا الشخص سامري، نبي كاذب ودجال. وجاء في الروايات أن راية محمد وعلي (ع) تغدو مع القائم، وراية القائم مكتوب عليها: "البيعة لله".
2 صحيح البخاري، البخاري، كتاب الفتن، الحديث ٧٠٦٨
3 الكتاب المقدس، سفر صموئيل الأول، الفصل ٨، الآيات ٤-٧
4 الكتاب المقدس، سفر متى، الفصل ٢٧، الآيات ١٦-١٧، ٢٠
5 القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية ١١٦
6 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٦٧، ص١٠٧
7 الجمهورية، أفلاطون، الجزء التاسع
8 الكتاب المقدس، سفر صموئيل الأول، الفصل ١٦، الآية ٧
9 القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية ٣٠
10 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج١١، ص ٢٤١
11 الكتاب المقدس، سفر متى، الفصل ١٦، الآية ١٩
12 القرآن الكريم، سورة الصف، الآية ٦
13 صحيح البخاري، البخاري، كتاب المرضى، الفصل ١٧، حديث رقم ٥٦٦٩
14 غيبة الطوسي، الشيخ الطوسي، ج١، ص١٧٤
15 القرآن الكريم، سورة البقرة، الآيات٣١-٣٣
16 الكتاب المقدس، سفر التكوين، الفصل ٢، الآية ٢٠
17 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٢٥ ، ص١٣٨
18 ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج٢، ص١٢١٨
19 القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية ٥٢
20 الكافي، الشيخ الكليني، ج١، ص٣٩٨
21 القرآن الكريم، سورة النساء، الآية ٦٤